ترتبط الإمارات مع جمهورية الصين الشعبية بعلاقات دبلوماسية وثقافية قوية ومتجددة ومتنامية، ترتكز على أسس متينة من التعاون العميق، استناداً لمبادئ راسخة وثابتة، تتمثل في العمل على بناء أسس السلام والحوار والتّعايش بين الحضارات والثقافات والأديان والشعوب المختلفة، على قاعدة التّسامح والانفتاح، بعيداً عن نزعات الصدام والتّعصب والتّطرف الفكري.وسجلت زيارة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيب الله ثراه» إلى الصين، في شهر مايو عام 1990، منحنى مهماً في تاريخ العلاقات بين البلدين، حيث تم خلالها تأسيس مركز الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان لدراسة اللغة العربية والدراسات الإسلامية في جامعة الدراسات الأجنبية ببكين، وأصبح المركز مؤسسة تعليمية بارزة لتدريس اللغة العربية، وصرحاً معرفياً لنشر الثقافة الإسلامية. وفي عام 2014، تم افتتاح مركز الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان الثقافي في مدينة ووتشونغ بمنطقة هونغ سي بو التابعة لمقاطعة نينغشيا والذي يقدم خدمات لمسلمي إقليم نينغشيا بشكل خاص، والصين بشكل عام، كما قدّم صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة «حفظه الله»، منحة مليون دولار أميركي، إلى المركز لدعمه ودعم القائمين عليه، لتغطية كل الاحتياجات اللازمة والمتعلقة بشؤون الدراسات العربية والإسلامية، ليحمل المركز إلى جانب دوره الأكاديمي مهمة التبادل الثقافي بين المنطقة العربية والصين، ويسهم في توسعة مدارك المواطنين الصينيين إزاء لغتنا وثقافتنا وهويتنا العربية، خاصة أن المركز ذاته يخدم دولاً أخرى مجاورة، ويستقطب إليه محبي اللغة العربية والحضارة الإسلامية. ووضعت زيارة المغفور له الشيخ زايد إلى الصين، أول لبنات العلاقة الاستراتيجية بين الإمارات والصين، في مختلف المجالات، كما شهدت العلاقات بين البلدين عدة محطات ثقافية وعلمية وفكرية، خصوصاً على المستوى الثقافي بدءاً من عام 2008، حيث زار صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي «رعاه الله» الصين بهدف تفعيل وتعزيز العلاقات الثنائية بين الدولتين، وما تمخض عن هذه الزيارة من توقيع العديد من الاتفاقيات الثقافية. كما قام صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة في عام 2015 بزيارة تاريخية إلى جمهورية الصين الشعبية، جسدت حرص سموه الكبير على تنمية علاقات الصداقة والتعاون مع جميع دول العالم، وتعزيز مفهوم أمثل للثقافة الرصينة كقوة ناعمة في مواجهة التحديات و«عولمة الثقافة»، كما فتحت الزيارة الباب أمام تنمية العلاقات الثقافية والاجتماعية بين البلدين.
كرست الزيارات الرسمية المتعاقبة للقيادة الإماراتية والصينية العلاقات المتميزة بين البلدين، ورسخت الحضور الثقافي بينهما، ففي عام 2010 تم الافتتاح الرسمي لأول مدرسة من نوعها على مستوى المنطقة في أبوظبي لتدريس اللغة الصينية بهدف إعداد قاعدة وطنية من الكوادر المتخصصة بحيث تشكل جسراً لتعزيز التواصل الحضاري والثقافي بين الشعبين الصديقين.
وفي عام 2011 تم تأسيس «معهد كونفوشيوس» في جامعة دبي كأول معهد يُدشّن من نوعه في منطقة الخليج العربي، وينظم المعهد دورات لتعليم اللغة الصينية. كما وقعت هيئة المعرفة والتنمية البشرية في دبي، اتفاقية مع المركز الصيني لخدمات التبادل العلمي، التي تمنح الطلبة الصينيين ضمانات بأن الشهادات التي يحصلون عليها في دبي، يتم الاعتراف بها من قبل المركز ووزارة التربية والتعليم الصينية.
كما شيد مسجد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في منطقة نينغشيا الصينية، وأنجزته «مؤسسة خليفة بن زايد آل نهيان للأعمال الإنسانية»، كمركز إشعاع حضاري لنقل تعاليم الدين الإسلامي السمحة والمعتدلة، بجانب كونه من أكبر المساجد في جمهورية الصين الشعبية من حيث الاتساع والطراز المعماري، كما يعبر المسجد عن الروح الإنسانية التي تتمتع بها قيادتنا الحكيمة والشعب الإماراتي، ومن أجل تعزيز وتشجيع التبادل الثقافي بين الصين والإمارات.
مبادرات وشراكة
شهد عام 2015، مبادرات وشراكة ثقافية لافتة بين البلدين، بما يحقق تطلعات القيادة الحكيمة في دولة الإمارات، ومن ذلك توقيع عدد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم في عدد من المجالات من بينها مذكرة تفاهم للتعاون في مجال التعليم العالي لتشجيع التعاون في مجالات العلوم وضمان جودة التعليم بين مؤسسات التعليم العالي ومراكز البحث العلمي في كلا البلدين، وتبادل الطرفين سنوياً المنح الدراسية الجامعية، إضافة إلى توقيع اتفاقية لتبادل أعضاء هيئة التدريس والطلاب بين معهد «مصدر» وجامعة تسينغوا، كما تم توقيع بروتوكول تعاون في مجال التدريب الدبلوماسي وتبادل المعلومات والوثائق بين أكاديمية الإمارات الدبلوماسية ووزارة الخارجية الصينية، بجانب التوقيع على بروتوكول التعاون في مجال الأرشفة لتعزيز التعاون المهني لتنظيم وإدارة الأرشيفات.
تقارب نوعي
عبر قرون من ثقافتها الممتدة عبر التاريخ، وفي نموذجها الذي تسلمه ويقوده الرئيس شي جين بينغ، لا تزال الصين تقدّم نموذجاً مختلفاً على الدوام، يتميز عن سواه في العالم، ويبهر بقدرته على احترام الآخرين، وثقافاتهم أو نماذجهم الخاصة، كما يبهر بقدرته على ربط الماضي بالحاضر، عبر جسور ثقافية متينة ومنفتحة على الآخر، تجمع ولا تفرّق، ومن هنا جاء طريق الحرير القديم، ومن هنا أيضاً ولد مشروع الرئيس الصيني، المسمى (الحزام والطريق)، الذي يحمل الكثير من المشتركات مع القيم والرؤية الإماراتية، التي ترى في (التقارب الثقافي)، إمكانية لجعل الاختلافات في أنماط الحياة والسياسة والاقتصاد، فرصة ثمينة للتكامل وإثراء النشاط والفعل الابداعي الإنساني، بعوامل الإنجاز وظروف الازدهار. ولقد شكّلت الزيارة التي قام بها فخامة الرئيس الصيني «شي جين بينغ» إلى دولة الإمارات، في 19 يوليو 2018، نقلة نوعية في العلاقات الثقافية بين البلدين، وما رافق ذلك من رغبة صادقة في تعميق أواصر التعاون الثقافي، إلى جانب علاقات الصداقة والاحترام المتبادل بين القيادتين والشعبين الصديقين.
يستضيف «معرض أبوظبي الدولي للكتاب» في كل دوراته ثقافات بلدان مختلفة، تحقيقاً لمشروعه في جذب منظومة التنوع والثراء الثقافي، وكانت الصين ضيف شرف النسخة 27، عام 2017، وتمتع الجناح برؤية متميزة حيث جاء على مساحة واسعة وقسّم ليغطي كافة أطياف الثقافة الصينية من فكر وفلسفة ومعارف عامة وأدب وشعر ورسوم وكتب أطفال، وندوات، وتوسطته أماكن للجلوس والحوار الثقافي، فضلاً عن شاشات العرض التي احتلت مواقع بارزة على الجدران الداخلية والخارجية للجناح الذي شهد إقبالاً جماهيرياً غير مسبوق، كما زينت صور كبار الكتّاب الصينيين جدران الجناح، حيث أمكن لزوار المعرض الاطلاع على معلومات مهمة عن أبرز الروائيين والشعراء والمفكرين الصينيين، وفي مواجهة الجناح وحوله تحلقت 76 دار نشر صينية الرسمية منها والخاصة فضلاً عن دور النشر العربية التي تهتم بترجمة الأدب الصيني إلى العربية والأدب العربي إلى الصينية. وفي عام 2015، حلّت دولة الإمارات، ضيف شرف النسخة الثانية والعشرين من معرض بكين الدولي للكتاب.
أسبوع السعديات الثقافي
وشهد شهر يوليو من العام الماضي، في منارة السعديات بأبوظبي تنظيم «الأسبوع الثقافي الإماراتي- الصيني» والذي عكس في محتواه وفعالياته بداية لشراكة نوعية في مجال التقارب الثقافي بين البلدين الصديقين، واشتمل برنامج الأسبوع على نحو 30 فعالية ثقافية وفنية وفلكلورية من بينها جدارية مشتركة قام برسمها الخطاط الإماراتي محمد مندي، والفنان الصيني جاك لي، ويتجاور فيها قصر الحصن في أبوظبي مع البيت الصيني، بينما توسطت الجدارية «الإمارات» و«الصين» بالخط الكوفي الهندسي، بما يعبّر عن الترابط والتماسك بين البلدين. وحفل الأسبوع أيضاً بعناصر التراث الإماراتي، وكذلك الصيني، حيث خصص ركن لتوضيح عادات الضيافة الإماراتية وتقديم الرطب والقهوة، وكذلك «المجلس» المسجل ضمن قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي، لما له من دور مجتمعي مهم في المجتمعات العربية الخليجية، باعتباره مساحة للاجتماع وتبادل الأفكار والآراء في القضايا المختلفة، وتناقل آداب السلوك والتراث الشفاهي، مثل: الشعر النبطي والقصص والأغاني الشعبية وغيرها. بالإضافة إلى الحرف التقليدية الإماراتية، مثل: السدو ونقش الحناء، وغزل الصوف والحياكة وغيرها. هذا وقد اعتمدت وزارة الثقافة وتنمية المعرفة الإماراتية، وإدارة الدبلوماسية العامة والثقافية في وزارة الخارجية والتعاون الدولي الإماراتية، الأسبوع الإماراتي الصيني ضمن أجندتهما لتتم إقامته سنوياً.
هلا بالصين
من محطات التبادل الثقافي المهمة بين الإمارات والصين، ما شهدته إمارة دبي من خلال مبادرة «هلا بالصين» خلال شهر أكتوبر من عام 2018، وتمثلت في تنظيم «أسبوع الأفلام الصينية الأول»، مع برنامج حافل تضمن عرض أهمّ الأفلام الصينية، خلال فعالية ثقافية حضرها أشهر نجوم ومخرجي السينما الصينية القادمين إلى دبي للاحتفاء بصناعة السينما الصينية التي اكتسبت شهرة عالمية واسعة بسبب ما تقدمه من أفكار إنسانية.
من ناحية ثانية، فإن اهتمام الإمارات بالسينما الصينية بدا في أكثر من محطة غير المهرجانات الرسمية، فقد اهتمت دور السينما المحلية بهذه السينما، باستقطاب صالات العروض السينمائية في دبي العرض الأول للفيلم الصيني «سويتش»، من إخراج جاي سن، وإنتاج مجموعة فيلم الصين، وذلك في إطار الإعلان عن إطلاق عرض الفيلم رسمياً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
تراث وتشكيل
من أوجه التبادل الثقافي بين الصين والإمارات، مشاركة جناح «الصين» في مهرجان الشيخ زايد التراثي 2019، والذي عكس التمازج الثقافي الذي بدا واضحاً بين الثقافتين الصينية والإماراتية، من خلال تداخل بديع بين المحلات في الجناح، وبين ذلك التقارب في عديد المعروضات والمنتجات، وغير ذلك ما يحقق في الواقع فهماً متبادلاً أكبر بين الثقافتين.
ويقول جاك لي، الفنان الصيني الذي تخصص في رسم اللوحات الفنية المعبرة عن الثقافة والتراث الإماراتي، الذي يدرس الفنون في عدة جامعات: تملكني حب الإمارات وأهلها وثقافتها، منذ أن قدمت إليها، وذلك بفضل مزاياها الكثيرة، ولكونها واحة للإبداع والخير والأمان، ووجهة مثالية للعيش والعلم والعمل والاستقرار في عالمنا، حيث تجمع أبناء شتى شعوب العالم، تحت مظلة الخير والمحبة والوئام والانسجام. والتسامح. ويتابع: إن إعجابي الكبير بالثقافة الإماراتية دفعني إلى زيارة العديد من المتاحف فيها، كقصر الحصن، ومتحف الشيخ زايد، للاطلاع على تاريخ الإمارات.
صداقة منسوجة بـ«حرير التسامح»
رابط مختصر
المصدر : http://zajelnews.net/?p=86597