رشا أحمد
استعصت بيروت على الرثاء في ثنايا هذه الرسائل الخاطفة، بذكرياتها وصورها الشجية لمجموعة من الروائيين والنقاد، تحدثوا عن ماذا تمثل بيروت لهم، وأكدوا أن لبنان سيظل واحة للمحبة والفن والجمال، وأن شعبه الذي ثار على الظلم والفساد سينهض من بين أنقاض الدمار والخراب أكثر صلابة ومقدرة على صناعة الأمل… هنا نص الرسائل:
د. صلاح فضل: قتل المحبة
لا شك أن الألم يعتصر قلب كل عربي يشاهد فاجعة بيروت التي دمرت ثغره ومعنويات أهله الذين خرجوا في ثورة عارمة ضد الطائفية والانتهازية السياسية والفساد، لكن أعظم مآسي لبنان تتمثل في تفاقم نفوذ الإسلام السياسي المترع بالولاء لألد أعداء العرب تاريخياً، وهم الفرس الإيرانيون الذين تمكنوا من وجدان فقراء البقاع عن طريق الرشوة والخداع والتخويف من العدو الصهيوني، ثم استفزازه لتخريب لبنان في معركة وحيدة حرمت اللبنانيين من امتلاك حرية الحركة في وطنهم، ووضعتهم بالرغم منهم في قلب معركة لا طاقة لهم بها على المدى الطويل، وبعد أن كانت بيروت واحة للحرية والفن والجمال وفضاءً مفتوحاً للنشر والإبداع خيم عليها مناخ التحزب الطائفي والشقاق الديني، وأخطر ما في هذا التحول التاريخي لطابع لبنان من السماحة والتحضر أن يكون طارداً لأبنائه للهجرة إلى الخارج، مثلما حدث في العصر العثماني. الأيدي القذرة التي تلعب بمصير لبنان، التي يتوه فيها إخطبوط أجهزة التخابر الصهيونية مع أطماع «حزب الله» تشعل الحرائق التاريخية، وتقتل روح المحبة، وتغرق سهول البلد الطيب وجباله في وحل التعصب والقبح والعوز. فاجعة بيروت انتكاسة مادية ومعنوية لكل ما يمثله البلد النموذجي الذي كان قبلة للمثقفين والفنانين العرب، يشبعون في رحابه الوضاءة عشقهم للحرية والجمال.
د. يسري عبد الله: حضور متجدد
ربما ستمكث مشاهد الموت والدمار طويلاً في عمق الذاكرة اللبنانية والعربية، فما حدث في مرفأ بيروت استدعاء جديد لجملة من الشجون والآلام تخص بلداً صغير المبنى، عميق الوهج والأهمية، يبدو حضوره الجوهري في الثقافة العربية تحديداً من قدرته على مغالبة الزمن والأنواء، ورفد واقعنا الفكري والإبداعي بالجديد والمختلف على مدار تاريخه، لتمثل بيروت إحدى أهم الحواضر المركزية في ثقافتنا العربية المعاصرة. بيروت التي تعد تنويعة مغايرة على متن التجديد الثقافي شعراً وسرداً وموسيقى، ونشراً للكتب والمطبوعات المختلفة. تبدو لي أيضاً إحدى الحواضر التاريخية الواصلة بين عالم قديم تضرب بجذورها فيه فيمنحها خصوصية الحضارات الراسخة، وعالم حديث ابن الآن وهنا، تبدو فيه بيروت كياناً متغيراً باستمرار. ولبيروت الجميلة المحبة والسلامة.
د. أماني فؤاد: في الروح ما يتعلق بها
كنت كلما بحثت عن أحد الكتب التي يثار حولها جدل أو منع أجد من يقول لي: عليك بطبعة لبنان. ما زلتُ كلما تراكمت ضغوط الحياة أبحث عن صوت فيروز، الذي يعيد جريان الماء في النفوس الذابلة. كانت مؤلفات جبران خليل جبران الكاملة من أوائل الكتب التي قرأتها وتركت علامات محفورة بوعيي وإدراكي للوجود. ثم كثيراً ما صورت الأفلام المصرية في شوارع الكورنيش والأشرفية والحمرا، في طرابلس، وفي الجبل بطبيعته الخلابة. استقرت لبنان في ذاكرتي مع معاني الحرية والجمال والانطلاق الذي يشمل كل مناحي الحياة، رأيت استطاعتها – في فترات – تذويب العرقيات والطوائف والأديان، وإعلائها لمفهوم المواطنة وسيادة القانون في تحضر رغم ما مر بها من نزاعات وحروب. شيء في الروح يتعلق بها، يهوى الجبل ومياه النبع الصافية وأشجار الأرز، يلمس عشق أهلها للحياة وتفننهم في ألوان الأطعمة والملابس، كما يلحظ تقديسهم لقيمة العمل ورغبتهم في التميز والنجاح. بدت لي دوماً ثقافة لبنان ذات الأصول الفينيقية أكثر تحرراً بمبدعيها وأدبائها ومفكريها وفنانيها. المؤسف أن البلد التي تمتع دوماً بجسارة الفكر وتعايش ألوانه، بات ساحة لتدخل العصابات وصراعات الطائفية واستشراء الفساد. الشعب الذي عشق الحياة وحولها لفنون شتى، تبدلت أحواله فصار خائفاً تحاصره الأزمات الاقتصادية، والأمنية، والسياسية، والتهديدات الخارجية، يصرخ لسان حاله لحكامه وطوائفه واقتصادييه «ابتلعوا أطماعكم واتركونا نعيش».
الروائي وحيد الطويلة: مدينة الفرح
المدن تشبه النساء… نقولها إن ربحنا في الغرام أو خسرنا. لكن المدن ربما لا يشبهها شيء غير أغانيها… بيروت أكثر مدينة تشبهها أغانيها… بيروت تشبه صباح أكثر مما تشبه غيرها… لو عدت إلى الأغاني اللبنانية من النادر أن تجد أغنية حزينة؛ بل ربما لا تجد على الإطلاق. كل هذا الفرح في الأغاني لا يصدر إلا عن طاقة حب شاسع للحياة… كل الحكايات عن سهرة تغسل الروح عنوانها هذه المدينة. رغم الحرب لسنوات والدمار وأفلام مارون بغدادي والبكاء المر في القصائد وفي الروايات كل الموسيقى مفرحة… البلد الوحيد الذي يخيل لك أن الآلات ترقص في أثناء العزف. حتى وإن كانت الكلمات حزينة لن تحزن… ستتكفل الموسيقى بالتلويح بالأمل. كل من حاول أن يعلي كفه علينا يوماً كان يقول: عشت في بيروت؛ كل من لوح لنا بالحب الذي يشبه العدوى يقول: ضيعت قلبي في بيروت. بيروت هي السماء بكامل اتساعها اللانهائي، هي الزرقة بحراً وسماءً وغناءً.. الأزرق لا يؤكل كما قال جياكوميتي.. لن تؤكل بيروت أبداً، لن تؤكل مدينة ترقص فيها الروح كلما صدحت بواحدة من أغانيها.
الكاتب الليبي أحمد الفيتوري:
قنبلة بيروت
أول هدية لبنانية أحصل عليها، في صباي، كانت أسطوانة تضم أغنية «غنيتُ مكة» لفيروز، من ألحان الأخوين الرحباني، وكلمات الشاعر سعيد عقل، الهدية جلبها لي من لبنان عامل لبناني مسيحي يعمل بليبيا ويسكن بحي الصابري بمدينة بنغازي، مسقط رأسي، وقد اضطر أبي تحت إلحاحي، أن يشتري لي جهاز «بيك آب» كي أشغل الأسطوانة، وبذا كنت أول شخص يمتلك هذا الجهاز في الحي، وفيروز تصدح بالأغنية.
هكذا بدأتُ علاقتي بلبنان: مسيحيون يتغنون بمكة، وآخر يُهديني الأسطوانة، لكن ما سيتبين لي في أول شبابي، أن لبنان صرح مبني من تراب وعلى تراب، حين أفقت عام 1975 على أول حرب أهلية تندلع في عالمي والعالم العربي، وكشاب مفعم باليسار، انحزت إلى طرف «القوى الوطنية اللبنانية»، وبعد أن تم وأد بيروت، روح الرومانتيكية العربية، الآن في زمن القنبلة النووية اللبنانية، زمن «حزب الله»، لبنان لا أفق في الأفق، لبنان الذي يتعيش على ما مضى، وساحة لعراك الآخرين في مطلع قارة آسيا، يشبهه حال ليبيا التي كما عقدة تتوسط عنق المتوسط، فلا يتذكرهما الآخرون إلا كاحتمال لمصيبة ممكنة! الآن لبنان على الطاولة بيدق في لعبة الأمم ومملكة صهيون، يحدث هذا مع نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، والعالم مصاب بالوباء، وتتلبسه روح شيطان يلبس ستراً صفراء. مع ذلك أثق أن لبنان سينهض بإرادة شعبة، ويتجاوز هذه المحنة القاسية.
الروائي محمد بركة: وجه مشرق
لا يُذكر اسم العاصمة اللبنانية إلا وأتذكر قريتي الصغيرة كفر سعد البلد، التابعة لمحافظة دمياط، التي كان أبناء القرى المجاورة يطلقون عليها اسم بيروت! قريتي لا تشبه العاصمة الأشهر في تاريخها الذي يعود إلى ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد. قرية لا يحتضنها بحر بلون أزرق فاتن ولا تمتلك صخرة «روشة» يقصدها العشاق، ولم تشتهر في تاريخها القديم بمدرسة للحقوق، ومع ذلك حظيت بهذا الاسم نظراً لقوة شخصية نسائها، وإصرارهن على التحقق مادياً ومهنياً مع تحضر رجالها وتزايد نسبة التعليم الراقي، وطموح أبنائها في صنع مصير مختلف. في روايتي «عشيقات الطفولة» لم يكن غريباً أن يحمل أحد فصولها عنوان «بيروت البلد». لست قلقاً على بيروت، فالوجه الحضاري المشرق سينتصر على الغزاة الجدد، والأغنية ستنتصر على الرصاص، والموسيقى سيكون دويها أشد وقعاً من المتفجرات المخزنة في العقول قبل المرافئ!
الروائية سهير المصادفة: بأجنحة أكبر
بيروت تمثل لي منارة الإبداع والفن والجمال في العالم العربي، ولقد لعبت كلٌّ من القاهرة وبيروت دوراً ثقافياً وتنويرياً كان طليعياً طوال القرن التاسع عشر والقرن العشرين. بيروت في مخيلة العرب مرتبطة بالجمال والرقي والحرية والإبداع. ولذلك هي موجودة بالاسم والرسم في مدونة الأدب العربي الحديث وقصائده الشهيرة. في روايتي الأولى «لهو الأبالسة» كتبت فقرة عن بيروت التي يكتشفون كل فترة مدى جمالها وفتنتها وانعتاقها نحو آفاق حرة، فيحرقونها – مع الأسف الشديد – فهم لا يريدون باريس جديدة في العالم العربي. ولكن من فرط قوة وجمال بيروت فهي كل مرة تنهض من محاولة حرقها وتحلق بأجنحة أكبر، تماماً مثل عنقاء الرماد.