بالوماريس حادثة حصلت خلال القرن الماضي، والتي ربما لم نسمع عنها كثيرًا، لكنها حادثة مفزعة بكل تأكيد كادت أن تقضي على إسبانيا بكاملها لولا مشيئة الله في ألا يتكرر سيناريو هيروشيما وناجازاكي المشئوم.
في 16 يناير عام 1966 كان طاقم طائرة بي52 والمكون من 7 أفراد من القوات الجوية الأمريكية في مهمة استطلاعية، كجزء من عملية كبيرة تُسمى “Chrome Dome” والتي كانت مستمرة منذ 6 سنوات، وقد لعبت دورًا أساسيًا في القدرة النووية للولايات المتحدة.
وتحسبًا لأي هجمات سوفيتية محتملة كانت قاذفات القنابل تحلق على مدار 24 ساعة، قاطعة المحيط الأطلسي إلى الساحل الشرقي لإيطاليا، قبل العودة مجددًا إلى الولايات المتحدة. هذا يعني أنه إن أعطى الرئيس الأمريكي الأوامر بضربة عسكرية للسوفييت، فتكون الطائرات على أهبة الاستعداد.
وبسبب طول المدة الزمنية التي تقضيها قاذفة بي 52 في المهمة الاستطلاعية، كانت بحاجة للتزود بالوقود حوالي أربع مرات في الجو. وفي 17 يناير وبعد التحليق فوق البحر الإدرياتيكي، عادت الطائرة للتزود بالوقود مرة ثالثة، حيث التقت بطائرة خزان الوقود كيه سي 135 على ارتفاع 9448 مترًا فوق جنوب شرق إسبانيا.
وقعت الكارثة حين اصطدمت طائرة الخزان التي تزود الوقود بقاذفة القنابل، فاشتعلت النيران سريعًا حيث كانت محملة بـ 113562 لترًا من الوقود وبدأت القاذفة بالتحطم، لكن لحسن الحظ تمكّن طاقمها من الخروج سريعًا وفتح المظلات. لكن لا شيء يمكن فعله في القنابل الهيدروجينية الأربعة، والتي حتمًا ستسقط على الأرض بسرعة هائلة، والتدمير المحتمل لمناطق واسعة من أندلوسيا ومورسيا، وقتل مئات الآلاف من الناس، والغبار النووي الذي له القدرة على قتل الملايين في أوروبا، ليس فقط نتيجة التسمم الإشعاعي، إنما من السرطان لعقود قادمة.
ولحسن الحظ، لم تسفر الحادثة عن انفجارات نووية ضخمة، فالقنابل الهيدروجينية لم تنفجر لحظة سقوطها على الأرض، لكن انفجرت المتفجرات التقليدية في اثنتين من القنابل ما أدى لوصول نحو ثلاثة كيلوجرامات من غبار البلوتونيوم -239 إلى قرية الصيد بالوماريس. وعلى الرغم من المحاولات التي قام بها الأمريكيون لتنظيف المكان، إلا أن ما حدث قبل 50 عامًا لا تزال تداعياته موجودة إلى اليوم. وقد عقدت الولايات المتحدة قبل وقت قصير اتفاقًا مع الحكومة الإسبانية لإزالة حوالي 50 ألف متر مكعب من التربة الملوثة بالإشعاع في محاولة لتصحيح خطأها.
الإجابة أن طاقم الطائرة لم يقم بتفعيل القنابل، بمعنى أن الدوائر الكهربائية التي تؤدي لانفجار كامل لم تكن مفعلة. وفي حالة القنابل الهيدروجينية، فإن المتفجرات التقليدية فيها يجب أن تنفجر بشكل متتابع من أجل إحداث انشطار في البلوتونيوم واليورانيوم، ومن ثم الانصهار اللاحق لذرات الهيدروجين وهي التي تعطي القنبلة القوة المرعبة، وبالتالي تكون النتيجة نشر المواد المشعة السامة.
ماذا عن القنابل الثلاثة الأخرى؟
لم تُحدِث أي منها أي تدمير في الأرواح أو الممتلكات، انفجرت القنبلة الثانية بذات طريقة القنبلة الأولى، أما القنبلة الثالثة فقد سقطت على نهر جاف دون أن تنفجر، أما القنبلة الرابعة فقد سقطت حوالي 9 أميال من البحر.
وما جعل أيضًا حظ إسبانيا وفيرًا هو فشل مناطيد القنابل، ما يعني أنها سقطت بتلك القوة التي أدت لدفنها تحت الأرض لحظة انفجارها، وبالتالي فإن نسبة صغيرة نسبيًا من البلوتونيوم انتشرت في المكان. وهناك المزيد من الأمور التي لعبت في إيقاف كارثة محققة في إسبانيا هو أن النسيم سحب الجزئيات المشعة بعيدًا عن بالوماريس.
وبالعودة إلى طاقم الطائرتين، فقد توفي طاقم طائرة الخزان والمكون من أربعة أفراد، والذين قد احترقوا أحياء قبل انفجار الطائرة ككرة نارية ضخمة على ارتفاع 487 مترًا. أما طاقم قاذفة القنابل، فقد تمكّن أربعة منهم من فتح المظلات والنجاة، أما الثلاثة الآخرون فقد تم إنقاذهم من البحر.
مهمات تنظيف المكان لا تزال جارية!
وخلال أربعة وعشرين ساعة تم تحديد مكان القنابل وإزالتها، أما المشكلة فكانت مع القنبلة الرابعة والتي كانت موجودة على عمق 762 مترًا في البحر المتوسط. استغرق الوقت ثلاثة أشهر كي تعثر الولايات المتحدة عليها. وبعد الحادثة، استمر الجدل لخوف الإسبان من تأثير المواد المشعة على بالوماريس، لكن أظهرت فحوصات عينات البول بأنه تم استنشاق البلوتونيوم لأقل من دقيقة، وأنه لا يحتاج أي شخص لرعاية خاصة أو علاج.
لكن كانت المشكلة في الأرض التي سقطت عليها القنابل، وتعرضت للغبار الإشعاعي، قامت الولايات المتحدة بإزالة حوالي 5000 برميل من التربة الملوثة بالإشعاع ودفنتها في مقر لجنة الطاقة الذرية في تشارلستون في كارولاينا الجنوبية. وعلى الرغم من المحاولات المستمرة للولايات المتحدة لإصلاح خطأها إلا أن سكان بالوماريس غير مقتنعين بأنهم في مأمن.
وبحسب أحد التقارير فلا يزال 50 من أهالي القرية يحملون البلوتونيوم في أجسادهم، وهناك بعض الأدلة أن بعضًا منهم قد توفي بالسرطان في أعمار مبكرة. ولسوء الحظ لا يمكن التأكد من ذلك، كون أن جميع السجلات تعرضت للإتلاف خلال الحكم الفاشي للجنرال فرانكو.
وعلى مدى عدة عقود كانت بالوماريس محل خلاف بين الولايات المتحدة وإسبانيا. وفي عام 2008 قالت سلطة الطاقة النووية في إسبانيا أن 12 فدانًا من الأراضي لا تزال ملوثة، مع وجود حوالي نصف كيلو من البلوتونيوم. وفي النهاية تم الاتفاق بين الدولتين على قيام الولايات المتحدة بإزالة التربة المتبقية والتي يُشتبه بتسممها بالبلوتونيوم، ضمن مشروع ضخم، سيستغرق عامين، ويكلف حوالي 36 مليون دولار.