كثيرا ما تصحبني رغباتي لقراءة قصائد من الشعر الايراني المعاصر الذي يوفّره لنا مترجموه العارفون بأسرار العربية وقوة مفرداتها ومواطن الابداع فيها مثلما يعرفون ملامح الجمال ومكامن التجديد في لغتهم الفارسية ومن تراثهم الموغل في العراقة ؛ فلم يعد القاريء العربي غريب الوجه واليد واللسان امام كرم العولمة التي وهبت لنا ابداعات الشعوب وقدّمته لنا على طبق من ذهب وغالبا ما قلت في سري وانا أتذوق شيئا من شعر هؤلاء : ليت سياسيي ايران الراديكاليين مثل شعر بلادهم بهذه اللمسات الرائقة والصوفية العذبة الناهلة من مولانا جلال الدين الرومي وفريد الدين العطار ومن نفحات سعدي الشيرازي والفقيه العالم الشاعر عمر الخيام وشتان بين بذاءة السياسة وبين بداعة الشعر وفيضه في الروح والحواس وخلجات المشاعر والاحاسيس .
وانا اكتب هذا المقال عن شعراء ايران المحدثين كنت أتنزه في ملاعب جنّة شيراز التي عرفتها منذ العام /2007 واحة هانئة ممتعة ثرية بثمارها الادبية ، وشيراز هذه مجلة تصدر بلغتنا العربية الفصحى من طهران وهي تعنى بترجمة خيْرة قصائد الادب الإيراني الحديث والقديم الى لغتنا العربية كما تقتبس عيّنات مختارة من شعرنا العربي الحديث وتقدّمه الى القاريء الايراني ، يرأس تحريرها الاستاذ والصديق العزيز موسى بيدج وهو شاعر محدث ، مؤمن بحوار الثقافات ، مولع بالأدب العربي المعاصر ومترجم حاذق ناقل للابداع العربي الحديث الى اللغة الفارسية وبالعكس ويؤمن ايمانا راسخا بمدّ طرق التواصل بين الأدبين العربي والايراني ، وكما تشير مجلته في غلافها انها نافذة على مدّ أواصر التواصل بين ادبنا العربي والادب الايراني الحديث وهل غير الادب وسيلة راقية للتواصل والتقارب واللقاح الفكري لترميم ما أفسدته السياسة بين الشعوب .
قامت مجلة شيراز بترجمة الكثير من نتاجات ادبائنا المعاصرين وخاصة في مجال الشعر والقصة والنقد فقد عملت على ترجمة شعر محمود درويش ونقلت اغلب قصائده الى قرّائها الكثر المهتمين بالشعر العربي كما ساهمت في نشر شعر علي احمد سعيد الى الفارسية بترجمات ثريّة على أيدي مختصين بارعين بهذا الشأن عدا قيامهم بنشر الكثير من القصائد المفردة لشعراء عرب محدثين ، كما قرأت في مجلة شيراز مقابلة مع الاديب الفلسطيني عزّ الدين المناصرة وأغدقت على قرّائها نماذج منتقاة من شعره ورؤاه النقدية وعرّفت بمسيرة الأدب الفلسطيني الحديث ، ولم تكتفِ بذلك بل وسّعت من جهدها ونشرت بتراجم ملفتة العديد من النتاج القصصي من خلال انتقائهم نصوصا نثرية من ادبنا العربيّ الحديث ونقله الى اللغة الفارسية بعناية وانتقاء مدروسين .
ومع الاسف تعرضت مجلة شيراز وراعيها الاديب والمترجم الحاذق موسى بيدج الى ضائقة مالية حجبتْها عن الصدور ورقيا ، وهناك مساعٍ الى إظهارها الكترونيا قابلة للتحميل كما قال لي مؤخرا عسى ان تثمر جهوده بالنجاح قريبا .
ومن ضمن مصادر قراءتي لشعراء ايران المحدثين فانني كثيرا ما ألوذ بترجمات الاديب الموسوعي صديقي العتيد جلال زنكابادي الشعرية لبراعة نقله المناخ الشعري اضافة لقدراته اللغوية وفهمه العميق بأسرار وخفايا الابداع في اللغتين العربية والفارسية ولكونه شاعرا يعرف كيف يبرع في ازاحة المعنى الشعري ونقله بتوئدة وتأنٍ ليصل الينا معافى سليما وكأنه هو من كتب القصيدة الاصل وأوصلها الينا بأمانة .
انقل هنا مقتطفات من نصّ شعري كتبهُ الشاعر الايراني محمود كيانوش وهو الذي مرّر شعره ايام حكم الشاه بتقمّصَ شخصية شاعر هندي وهمي اسمه ” براديب أوما شانكار ” بترجمة الاستاذ الشاعر والباحث القدير جلال زنكابادي عنوانه ” المطر ” :
لا تتوقّع ولا تسل الغيوم
عن مفهوم العدل والرحمة
فهي لا تفقه الحساب
فإذا ما حبلتْ غيمة
فأنّى تكن وفي اللحظة المحتومة
ستلد مولودها الزكيّ
مادام الثرى مهد الحياة
لكنما الان تسفّد بندقيتك بالطلقات
وتصوّب على الحياة
حيث الحقد يبتغي القربان
اما الفيضان فلا يهاب شيئا
اذ يجتاح قصور المغتصبين
ويجرف الغلال غير المحصودة
لئلا يكنزوها في عنابر الاحتكار
ولموسى بيدج ترجمات غاية في الرقيّ والثراء للشاعر الايراني بهاء الدين المعروف ب” سلطان العلماء ” تشكّلت على شكل ومضات غاية في الجمال والتأثير الإبداعي على القاريء واقتطف منها :
العالم حربٌ ، لا تكونوا من غير سلاح
***
ايمانُك مثل جسمك
اذا لم تخبئْه عن الذئاب والسباع
واذا لم تَقتل الأفاعي والعقارب
فلن يحيا باطمئنان
***
روحك صارت تشبه بيوت النمل
من فرط اكتظاظها بالشياطين
***
السماء والأرض شجرة
والناس فاكهة على أغصانهما
تسقط تباعا
***
المرأة مرآة
لا تكن حجَرا فتحطّمَها
ولا ماءً فتنساب فيها
***
حين يصل الألم ذروتهُ
يعجز المرء عن النواح
لأن إناء النواح ضيق
لا يستوعب ذلك الحجم من الألم
لا يمكن المرور بعوالم الأدب الايراني الحديث دون التوقّف مليا في عالم ” فروغ فرخزاد ” ( 1935—1967 ) هذه الشاعرة اللامعة التي عاشت وضعا دراماتيكيا غاية في الغرابة والتنوّع وحالة أسريّة لا تخلو من الاضطراب وتوفيت في عزّ شبابها وهي بعمر الثانية والثلاثين في حادث مؤسف ، لنقرأ إحدى قصائدها من مجموعتها الشعرية ” عصيان ” الصادرة عام /1958وهي ترى موتها المبكّر بأمّ عينها وكأنها تتنبأ بمصيرها ومآلها القريب بعيدا عن الحياة يضمّها قبرها صديقها في العالم السفلي بترجمة رائقة من قبل الشاعر والمترجم العراقي الصديق العارف بخفايا اللغة الفارسية حميد كشكولي :
سوف يأتيني موتي يوما
في ربيعٍ مضيء بأمواج النور
في شتاءٍ مغبرٍّ في أقصاه
او خريفٍ خلا من الصراخ والأمواج
سيأتيني موتي في يومٍ من الايام المرّة او الحلوة
في يومٍ عجيف مثل بقية الايام
يستمدّ ظله من يومنا هذا ومن الامس
عيوني كأنها دهاليز داكنة
وجنتاي مثل الرخام البارد
سيخطفني نومٌ مفاجئٌ
وسأفرغ من صراخ الألم والأنين
يداي تزحفان على دفتري بهدوء
فارغتان من سحر الشعر
ذاكرة ايامٍ كان دمُ الشعر يبرق ويفور
لا تني الارض تهمس لي كلّ مرّة
ان ثمة قادمين في الدرب الى تربتي
آهٍ ! ، لعلهم عشّاقي أتوا ليضعوا الورود
في منتصف الليل على ضريحي الحزين
وستنزاح فيما بعد ستائر دنياي السود
وستنسلّ عيون غريبة في اوراقي ودفاتري
يدخل غرفتي شخص غريب على شرف ذكراي
ويوقظ ذاكرتي ، وثمة شعرة وبصمة يد ومشط
تبقى متروكة امام المرآة
انني اسير من ذاتي وأبقي شيئا ما في ذاتي
وسيكون الخراب مصير ما يتبقّى
فروحي مثل شراعِ مرْكب يلوح في الافق البعيد
تتسارع الأيام والأسابيع والشهور وقد نفد صبرُها
وعيونك تتشوّف رسالة وترنو الى الدروب
الا ان الارض تعصر جسدي البارد من كلّ الجهات
فبدونك، وبعيدةً عن خفقان قلبك
سيتهرأ هناك قلبي تحت التراب
ولاحقا سيغسلُ المطرُ والريح اسمي بنعومةٍ
على وجه الصخر ، ويبقى قبري مجهولا في الطريق
خاليا من اساطير الشهرة والعار
وقد سبق لحميد كشكولي ان غاص في بحر الشاعر الطليعيّ احمد شاملو (1925- 2000 ) وأخرج العديد من دررهِ الشعرية كونه يعدّ من مجددي الشعر الايراني الحديث وممن تمرّدوا على الاوزان الشعرية والهياكل التقليدية في الشكل والتي اعتمدت على اوزان الفراهيدي حالها كحال قصائدنا العربية ، ونستطيع القول ان شاملو امتداد للرعيل الاول من شعراء ايران اللامعين امثال نيما يوشيج ومهدي اخوان ثالث وحميد مصدّق وصادق هدايت وكانت اشعاره يتغنّى بها الشباب الثوري المتمرّد على التقليد وعلى سلطة الوليّ الفقيه ومنتقدي الراديكالية المتأسلمة مما اضطرت السلطات الدينية الى منع تداول شعره في العام/ 1981 حتى مجيء السيد محمد خاتمي الشخصية المعتدلة المحبّة للشعر رئيسا للبلاد وقتذاك وتم كسر طوق الحصار على شعر شاملو في العام/ 1997؛ اذ من المعروف ان خاتمي كان معتادا ان يهدي رؤساء الدول دواوين من شعراء فارس الكبار مثل سعدي الشيرازي وعمر الخيام والفيروزأبادي وغيرهم خلال زياراته وجولاته لهذه الدول عندما كان في رأس السلطة الايرانية .
ويجدر ان نذكر بان احمد شاملو يعتبر اول من ارسى دعائم قصيدة الشعر الحرّ وأشاع قصيدة النثر في الشعر الايراني المعاصر وكثيرا مايقارن ببدر شاكر السياب عندنا بريادة القصيدة الحديثة ، وبخطى المحدثين الاخرين في ترسيخ الشعر المنثور في ادبنا العربي الحديث ، وهذه ترجمة السيد كشكولي لقصيدة شاملو ” الحبّ الكلّي ” :
الدمع ُ سرٌّ
البسمةُ سرّ
الحبّ سرّ
دموع تلك الليلة كانت بسمة الحبّ
فانني لستُ قصة ترويها
ولست نغمة تغنّيها
ولست صوتا تسمعه
او شيئا ما تراه
او شيئا ما تفهمه
فانني الالم المشترك
نادِني !!!
فالشجر يتحدّث الى الغابة
العشب يتكلّم مع الصحراء
النجم مع الكون
وانا أتكلّم اليك …
قل لي اسمك !
أعطني يدك !
قل لي ما عندك من كلام
هاتِ قلبك !
لقد أخرجتُ جذورَك
تحدثتُ بشفاهك الى كلّ الشفاه
ويداك تعرفانِ يدي
لقد بكيت معك في الخلوة المضيئة
في سبيل ذكرى الاحياء
وغنيت معك اجمل الاغاني في المقبرة الظلماء
لان اموات هذا العام كانوا اعشق الاحياء
اعطني يدَيك
يداك تعرفانني
يامن لقيت متاخرا ، أحكي اليك
بقدر مايحكي الغيم مع العاصفة
بقدر مايحكي العشب مع اليباب
بقدر مايحكي المطر مع البحر
بقدر مايحكي الطير مع الربيع
بقدر مايحكي الشجر مع الغابة
فانني قد اكتشفت جذورك
وان صوتي وصوتك صديقان لبعضهما ..
ولأحمد شاملو مرثية موجعة بحقّ المبدعة الشاعرة فروغ فرخزاد أقتطف منها بعض الابيات بترجمة الشاعر والمترجم الرائق موسى بيدج :
باحثا عنكِ ، ابكي على عتبة الجبال
على بوابة البحار والاعشاب
باحثا عنكِ ابكي في معبر الرياح
في تقاطع الفصول
في اضلاعٍ مكسورةٍ لنافذة
صنعتْ للسماء الغائمة إطارا عتيقا
في انتظار صورتك
الى متى وكم ستنطوي اوراق هذا الدفتر الخالي
ولمن يريد ان يستعرض ويكتب عن الشعر الايراني المعاصر لابدّ ان يعرج على سهراب سبهري (1928—1980 ) وابداعاته الشعرية ومبتكر الصور البيانية المذهلة لأنه رسامٌ بارعٌ وفنانٌ تشكيليّ اضافة لكونه من طليعة الشعراء المجددين ذوي الخيال الواسع الافق ، تأثر كثيرا بالسوريالية لكن سورياليته اتسمت بأناقة الالفاظ وتنوع المعاني المبتكرة ولم ينجرّ الى الرمزية المفرطة .
جاب سبهري العالم وكان محبا للترحال والاطلاع على اغلب شعراء العالم وفنانيه حتى وطأت رجلاه بلاد اليابان بهدف تعلّم واتقان النحت على الخشب وقرأ كثيرا من قصائد الهايكو لعدد من الشعراء اليابانيين وأعجب بها حتى ارتسمت بوضوح في معظم قصائده .
وهذه احدى قصائده المفعمة بالخيال الواسع بترجمة الدكتور احمد موسى استاذ الادب الفارسي في المغرب العربي ،عنوان القصيدة ” اين بيت الصديق ” :
اين بيت الصديق ؟؟
سأل الفارسُ عند الفجر
تمهّلت السماء
وهب العابرُ ظلمةَ الرمال
غصنَ النور المتدلّي من شفاههِ
وأشار بإصبعهِ الى صفصافةٍ قائلاً :
قبل ان تصل الشجرة ؛
هناك زقاق مشجّر
اكثر اخضرارا من حلم الله
الحب فيه ازرق
بلون زغب الصفاء
تذهب الى نهاية الزقاق..
الذي ينتهي عند خلف البلوغ
ثم تدلف الى جانب وردة العزلة
وقبل ان تصل الوردة بقدمين..
تمكث عند نافورة اساطير الارض الخالدة
ستأخذك رهبة شفيفة
ستسمع خرخشة في صفاء الفضاء حيث يسيل
سترى طفلا تسلّق صنوبرةً سامقة
كي يقتطف من عشّ النور فرخا
فاسأله :
” اين بيت الصديق ”
في هذه العجالة ، لايمكن ان احيط احاطة كاملة بملامح وسمات الشعر الايراني المعاصر بهذه المقالة القصيرة وانما هي جولة سريعة كسائح عابر في سفح صغير امام سهوب واسعة ومساحات شاسعة يتطلب خوض غمارها والتنزه بمغانيها وماكتبته سوى انطباعات من خلال قراءاتي لشعر هؤلاء المجددين حصرا، فهناك الكثير الكثير من الشواعر البارعات والشعراء الذين حملوا راية التجديد ولعلِّي اعود لاحقا لتسليط الضوء اكثر على شعراء اخرين تركوا بصمات واضحة وآثار لا يمكن اغفالها في مسار حركة الشعر الايراني الجديد .
جائلٌ في الشعر الإيراني
رابط مختصر
المصدر : http://zajelnews.net/?p=107548