” ثَلاثَةٌ لا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ : رَجُلٌ كَانَ لَهُ فَضْلُ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ فَمَنَعَهُ ابْنَ السَّبِيلِ ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لا يُبَايِعُهُ إِلا لِدُنْيَا فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ مِنْهَا سَخِطَ ، وَرَجُلٌ أَقَامَ سِلْعَتَهُ بَعْدَ الْعَصْرِ فَقَالَ : وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَقَدْ أُعْطِيتَ كَذَا وَكَذَا ، فَصَدَّقَهُ الرَّجُلُ ، فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ ” .
فَمَعنَى لا يَنظُرُ اللهُ إِليْهِمْ أَنَّهُ لاَ يُكْرِمُهُمْ إِنَّما يُعَذِّبُهُمْ ويُهينُهُم، أَمَّا رُؤْيَتُهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ فَهِيَ رُؤْيَةٌ شَامِلَةٌ عَامَّةٌ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ. أَمَّا مَعنَى لا يُكَلِّمُهُمْ أَنَّهُم لا يَفرَحُونَ حِيْنَ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ لاَ يَحصُلُ لَهُمْ سُرُورٌ مِنْ سَمَاعِ كَلامِ اللهِ تَعَالَى بَلْ يَحصُلُ لَهُمْ قَلَقٌ. اللهُ تَعالَى يُكَلِّمُهُمْ لِيَعْرِفُوا أَنَّهُمْ مُهَانُونَ عِنْدَ اللهِ لَيْسَ لَهُمْ أَمَانٌ وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الدَّرَجَاتِ العُلَى.
أمَّا الأتقِياءُ فَيُكَلِمّهُمُ اللهُ تَعَالَى كَلامَ مَنْ رَضِيَ عَنْهُ أَيْ يُسمِعُهُمْ كَلامَهُ الَّذِي لا يُشبِهُ كَلامَ الْخَلْقِ فَيَحْصُلُ لَهُمْ سُرُورٌ وَرِضًى وَاطمِئنَانُ نَفْسٍ. فَالْمَرضِيُّونَ عِندَ اللهِ تَعالَى يَحصُلُ لَهُم عِندَما يَسمَعونَ كَلامَ اللهِ مِنَ الفَرَحِ وَالسُّرُورِ مَا لا نَستَطِيعُ وَصْفَهُ وَالْمَغضُوبُ عَلَيهِمْ لا يَشعُرُونَ بِأَمْنٍ بَلْ يَشْعُرُونَ بِخَوْفٍ عَظِيمٍ وَقَلَقٍ جَسِيمٍ لا نَسْتَطِيعُ وَصْفَهُ وَهُنَاكَ فَرِيقٌ ثَالثٌ وَهُم بَعضُ عُصاةِ الْمُسلِمِينَ يَكُونُونَ بِحَالَةٍ بَيْنَ حَالَةِ هَؤُلاءِ وَبَيْنَ حَالَة هؤلاء. وَمَعنَى [ولا يُزَكِّيهِمْ] لاَ يُطَهِّرُهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ أَو لا يُثني علَيهِم.
أَمَّا مَعنَى [وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] أيْ عذَابٌ مُؤْلِمٌ. أَمَّا الْمَنَّانُ فَهُوَ الرَّجُلُ الَّذِي يُعَدِّدُ نِعمَتَهُ عَلَى ءَاخِذِهَا أَيْ يَمُنُّ بِمَا أَحْسَنَ بِهِ إِلَى شَخصٍ لِيُظهِرَ أَنَّهُ أَعْلَى مِنْهُ، يَقُولُ لَهُ أَلَمْ أُعطِكَ كَذَا يَوْمَ كَذَا، أَلَمْ أَفْعَلْ مِنَ الْمَعرُوفِ إِلَيْكَ كَذَا وَكَذَا لِيَكْسِرَ قَلْبَهُ. أَمَّا إِنْ قَالَ لِشَخْصٍ نَاهِيًا لَهُ عَنِ الْمَعصِيَةِ وَلَمْ يَقْصِدِ الْمَنَّ وَلاَ الإِيذَاءَ, عَاتَبَهُ حَتَّى يَتَوَقَّفَ عَنِ الإِيذَاءِ قَالَ لَهُ: أَنَا مَا فَعَلْتُ مَعَكَ شَرًّا أَنَا أَحسَنْتُ إِلَيكَ, فَهَذَا لَيسَ حَرَامًا.
وَمِنَ الْمَنِّ إِذَا عَدَّدَ الرَّجُلُ نِعمَتَهُ عَلَى ءَاخِذِهَا عِندَ مَنْ لا يُحِبُّ الآخِذُ إِطْلاعَهُ عَلَيهِ فَهَذَا الْمَنُّ مُحَرَّمٌ مِنَ الكَبَائِرِ يُحْبِطُ الثَّوَابَ أَي ثَوابَ الْمَعروفِ وَيُبطِلُهُ.
قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {يَا أَيُّها الَّذينَ ءَامَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} الآيَةَ (سُورَةَ الْبَقَرَةِ) معْنَاهُ لاَ تُبْطِلُوا ثَوابَ صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى, فَشَبَّهَ اللهُ تَعالَى الْمَنَّ بِالرِّيَاءِ لأَنَّ كِلَيْهِمَا يُحبِطَانِ الثَّوَابَ. وَأَمَّا الْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الكَاذِبِ فَهُوَ الَّذِي يَحلِفُ كَذِباً لِيُنَفِّقَ بِضَاعَتَهُ وَذَلِكَ أَيضًا مِنَ كَبَائِرِ الذًُّنُوبِ، أَمَّا إِذَا حَلَفَ وَهُوَ صَادِقٌ لِيُنَفِّقَ سِلْعَتَهُ فَلَيْسَ عَلَيهِ ذَنْبٌ لَكِنْ تَرْكُ ذَلِكَ أَفضَلُ فَلا خيْرَ فِي الْحَلِفِ إِلاَّ إِذَا كَانَ يُرَادُ بِهِ إِحْقَاقُ حَقٍّ أَوْ إِبْطَالُ بَاطِلٍ، فَالْحَلِفُ الَّذِي فِيهِ ثَوَابٌ مِثلُ الْحَلِفِ الَّذِي كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ علَيهِ وَسَلَّمَ يَحلِفُهُ حِينَ يُحَدِّثُ أَصحَابَهُ بِشَىءٍ مِنَ الأُمُورِ الدِّينِيَّةِ لِيُؤَكِّدَ ذَلِكَ فِي نُفُوسِهِم، كَانَ أَحْيَانًا يَقُولُ [وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ] وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَقُولُ إِذَا نَفَى شَيْئًا وَأَرَادَ تَأْكِيدَ ذَلكَ [لا وَمُقَلِّبِ القُلُوبِ] لِيُعلِمَ السَّامِعِينَ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا قَالَ لا رَيْبَ فِيهِ وَلِيُعَلِّمَهُمْ أَنَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ مِنَ الْحَلِفِ فِيهِ ثَوَابٌ وَلِيُعَلِّمَهُمْ أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَىءٍ لا يَخْلُقُ العِبَادُ شَيئًا فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ عَمَلُ القَلْبِ مَخلُوقًا للهِ تَعَالَى فَعَمَلُ الْجَوَارِحِ مَعلُومٌ أَنَّهُ مَخلُوقٌ للهِ تَعَالَى بِالأَوْلَى.
وَكذَلِكَ كُلُّ حَلِفٍ يُشبِهُ ذَلِكَ فَهُوَ حَقٌّ وَفِيهِ ثَوَابٌ لِمَنْ أَخْلَصَ نِيَّتَهُ. وَأَمَّا الفَقَيْرَ الْمُتَكَبِّرَ فَإِنَّمَا ذَمَّهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَنَّ الْكِبْرَ قَبِيحٌ لِلْغَنِيِّ وَالفَقِيرِ لَكِنَّهُ مَعَ الفَقْرِ أَقْبَحُ وذَاِكَ لِيُفْهِمَنَا أَنَّ الفَقِيْرَ الْمُتَكَبِّرَ أَشَدُّ إِثْمًا مِنَ الْغَنِيِّ الْمُتَكَبِّرِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُتَكَبِرِينَ يُحشَرُونَ يَومَ القِيامَةِ كَأَمثَالِ الذَّرِّ أَيِ النَّملِ الأَحْمَرِ الصَّغِيرِ يَطَؤُهُمُ النَّاسُ بِأقْدامِهِمْ إِهانَةً لَهُمْ ولا يَمُوتُونَ.
كَانَ فِي بَنِي إِسرَائِيلَ رَجُلٌ يَمْشِي مِشْيَةَ الْمُتَكَبِّرِ يَمشِي مُتَبَختِرًا يَمشِي فِي هَذَا الْجانِبِ وَفِي هَذا الْجَانِبِ مُعجَبًا بَشَعَرِهِ وَثِيابِهِ يَمشِي مُتَبَختِرًا, اللهُ أَمَرَ الأَرَضَ أَنْ تَبلَعَهُ فَبَلَعَتْهُ فَهُوَ فِي النُّزُولِ, هَذِهِ الأرْضُ غِلَظُهَا مَسَافَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ, هُوَ بَعدُ يَنزِلُ إِلَى أَسفَلَ, لَعَلَّهُ كَانَ كَافِرًا. الرَّسُولُ مَا ذَكَرَ هَلْ كَانَ مُسلِمًا أَمْ لا.
وَالْكِبْرُ والْفَخْرُ مِنَ الكَبَائِرِ، والْكِبرُ نَوْعَانِ النَّوْعُ الأَوَّلُ: رَدُّ الْحَقِّ عَلَى قَائِلِهِ بَعدَ العِلمِ بِأَنْ مَعَهُ الْحَقُّ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: استِحْقَارُ الْمُسْلِمِ بِأَنْ يَنْظُرَ إِلَى نَفْسِهِ بِعَيْنِ التَّعظِيمِ وَإِلَى غَيْرِهِ بِعَيْنِ الاِحتِقَارِ لِكَوْنِ ذَاكَ الْغَيْرِ فَقَيْرًا أَوْ ذَا عَاهَةٍ أَوْ صَغِيْرَ السِّنِّ أوَ نَحْوَ ذَلِكَ. قَالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{ الْكِبْرُ بَطْرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ } رَوَاهُ مُسلِمٌ فِي صَحِيحِهِ.
بَطْرُ الْحَقِّ مَعناهُ دَفْعُهُ وَرَدُّهُ عَلَى قَائِلِهِ مَعَ العِلمِ بِأَنَّ قَائِلَهُ عَلَى الْحَقِّ أَمَّا غَمْطُ النَّاسِ مّعنَاهُ احتِقَارُ الْمُسلِمِينَ. إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ {وَلا تَمشِ فِي الأرضِ مَرَحًا} أَيْ لا تَمْشِ مِشْيَةَ الكِبرِ والْفَخْرِ.
فَمَنْ وَقَعَ فِي الكِبرِ فَقَدْ وَقَعَ فِي سَخَطِ اللهِ ،لِحَدِيثِ البَيهَقِيِّ أَنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ [مَنْ تَعَظَّمَ فِي نَفسِهِ أَوِ اخْتَالَ فِي مِشيَتِهِ لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيهِ غَضبَان] الَّذي يَتَكَبَّرُ فِي مِشيَتِهِ يَمشِي مِشيَةَ الْمُتَكَبَِرِ هَذا ذَنْبُهُ كَبِيرٌ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [لا يَنْظُرُ اللهُ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاءَ] رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ.
الْمَعنَى أَنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلَيهِ نَظَرَ رَحْمَةٍ إِنَّما يُعَذِّبُهُ. هَذَا الْمُتَكَبِّرُ لَمَّا يَمشِي يَرْفَعُ رَأسَهُ وَيَمُدُّ يَدَيهِ وَيَنْظُرُ إِلَى ثَوْبِهِ مُعجَبًا بِهِ. وأمَّا التَّبَختُرُ فِي الْمَشْيِ لإِرهابِ العَدُوِّ فِي الْجِهادِ حَتَّى يَقُولَ الكُفَّارُ هَؤُلاءِ نَشَطَاءُ أقْوِياءُ فَجائِزٌ.
قَال عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ [ما لاِبنِ ءَادَمَ والفَخرِ أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ وَءَاخِرُهُ جِيفَةٌ] مَعنَاهُ كَيفَ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَهُوَ يَعرِفُ أَنَّ أَوَّلَهُ نُطْفَةٌ وَءَاخِرَهُ جِيفَةٌ. أَمَّا بِالنِّسبَةِ لِلَّذِي أكَلَ مِائَةَ صِنفٍ مِنَ الطَّعامِ مِنْ مالٍ حَلالٍ وَاتَّخَذَ مِائَةَ صِنْفٍ مِنَ الثِّيابِ لَيْسَ حَرَامًا إِذا لَمْ يَكُنْ لِلكِبرِ أَمَّا إذا كانَ بِنِيَّةِ الفَخرِ فَهُوَ مَعصِيَةٌ كَبِيرَةٌ, وكذَلِكَ الَّذِي يَبنِي بِنَاءًا فَخْمًا حَتَّى يُقَالَ مَا أَجْمَلَ بَيْتَ فُلانٍ بِنِيَّةِ الفَخرِ والكِبرِ, فَهَذا أيْضًا ذَنْبُهُ كَبِيرٌ. اللهُ تَعالَى لا يُحِبُّ الفَخْرَ فِي الثِّيابِ وَفِي الأَثَاثِ وَفِي الْمَسكَنِ وَنَحوِ ذَلِكَ.
هَذَا الذَّي لَبِسَ ثَوْبًا فَاخِرًا لِيَرَاهُ النَّاسُ وَيَقُولُوا مَا أجْمَلَ ثَوبَ فُلانٍ فَهَذا مَعصِيَتُهُ كَبِيرَةٌ. والتَّكَبُّرُ صِفَةٌ مَذمُومَةٌ سَواءٌ مَعَ الْمُتَواضِعِ وَغَيْرِ الْمُتَوَاضِعِ فَلا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: التَّكَبُّرُ عَلَى الْمُتَكَبِّرِ صَدَقَةٌ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [لا يَدخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كانَ فِي قَلبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِن كِبرٍ] رواه مُسلِمٌ. أَيْ لا يَدخُلُها مَعَ الأوَّلِينَ إِنَّما يَدخُلُها بَعدَ عَذَابٍ إِنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْفُ اللهُ. أمَّا التَّواضُعُ فَهُوَ مِنْ شِيَمِ الصَّالِحِينَ.
فَإِنَّ اللهَ تَبارَكَ وتَعالَى يُحبُّ الْمُؤمِنَ الْمُتَواضِعَ، فكُلُّ مَنْ لَهُ عِندَ اللهِ مَنزِلةٌ عَالِيةُ صفَتُهُ التَّواضُعُ وَتَرْكُ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ والرِّياءِ، ومَنْ تأَمَّلَ فِي أَحوَالِ الصَّالِحِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَن بَعدَهُمْ عَلِمَ أَنَّهُم كانُوا مُتَواضِعينَ غَيرَ مُتَرَفِّعِينَ عَلَى النَّاسِ.
كَانَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ مَعَ جَلالَةِ قَدْرِهِ وعُلُوِّ شَأْنِهِ لا يُجَادِلُ إِنسَانًا وَهُوَ مُتَرَفِّعٌ عَلَيْهِ إِنَّمَا كَانَ يَنوِي عِندَ جِدالِهِ لإِنسَانٍ الوُصولَ لإِظهَارِ الْحَقِّ، وكانَ مِنْ عِظَمِ إِخلاصِهِ للهِ تعالَى أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَنتَشِرَ عِلْمُهُ مِنْ غَيْرِ إِشْرَافِ نَفسٍ إِلَى أَنْ يُعرَفَ بِذَلِكَ لِيُبَجِّلَهُ النَّاسُ وَيُعَظِّمُوهُ إِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُ نَشْرَ الْحَقِّ بَينَ النَّاسِ ولَمْ يَكُنْ فِي نِيَّتِهِ أَنْ يُشَاَرَ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ لِوُفُورِ العِلمِ وَالتَّفَوُّقِ فِي الْمَعرِفَةِ فلولا ذلِك لَمَا أُظهِرَ عِلْمُهُ.
وَمِنْ عَظِيمِ تَواضُعِهِ أنَّهُ كانَ لا يُريدُ الإِمامةَ فِي الصلاةِ خَوفًا مِنْ تَحَمُّلِ الأمانةِ مَعَ أنَّهُ كانَ مِنْ أفقَهِ أَهلِ عَصرِهِ وَأعلَمِهِمْ وأَحسَنِهِمْ صَوْتًا بِالقِراءةِ.
كَانَ بَحرُ بْنُ نَصْرٍ يَقُولُ [كُنَّا إذا أردْنا البُكاءَ قُلنَا اذهبُوا بِنَا إِلَى هَذا الفَتَى الْمُطَلِبِيِّ يَعنِي الشَّافعِيَّ فنأتِيهِ فنَستَمِعُ لِقِراءتِهِ فنَتَساقَطُ مِنَ البُكاءِ] كَانُوا مِنْ حُسْنِ صَوتِ الإِمامِ الشافِعِيِّ يَأتُونَ لِيَستَمِعُوا إِلَى قِراءتِهِ حتَّى تَرِقَّ قُلُوبُهُم وَتَخْشَعَ لِلَّهِ ثُمَّ يَجلِسُونَ فيَستَمِعونَ لِقِراءَتِهِ فَكَانَ يُغشَى عَلَيهِمْ أَوْ يَكونُونَ قَريبِينَ مِنْ حَالةِ الغَشْيَةِ مِنْ شِدَّةِ مَا يَدخُلُ فِي قُلُوبِهِم مِنَ الرِّقَّةِ وَالْخَشيَةِ مِنَ اللهِ مِنْ حُسْنِ قِراءَتِهِ رضيَ اللهُ عنهُ، ومَعَ ذلِكَ مَعَ مَا آتاهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ حُسْنِ الصَّوْتِ فِي القِراءَةِ وَجُودَةِ القِراءةِ كَانَ يَخَافُ أنْ يَتَقَدَّمَ الناسَ إمَامًا فِي الصَّلاةِ.
هَذا حَالُ أَوْليَاءِ اللهِ أَنَّهُمْ يَتَّهِمُونَ أَنفُسَهُمْ بِالتَّقْصِيرِ