تسجيل الدخول

تجليات الشعر والشعرية في رواية «أولاد الغيتو»

واحة الأدب
زاجل نيوز4 يناير 2017آخر تحديث : منذ 8 سنوات
تجليات الشعر والشعرية في رواية «أولاد الغيتو»

b0fab6001b144d409e073b5c45c9cf13

قلما تتشكل الروايات من الشعر ومفاهيمه. وحتى عندما تمتلك السرديات تكويناً تحتياً كثيفاً، كحال أبرز الروايات، لا يظهر الشعر ذاته مكوناً بارزاً خشية أن يفقد السرد ملحمة برجوازية أو ولادة مقرونة بالطباعة وفئات القراء الجدد استجماعات الذروة والتشخيص والأثر. وعندما يحضر ظاهراً في الأسلوب يراد له في الغالب منح الروي طراوة الرواية وغوايتها أمام جمهرة من القراء والمستمعين.

كان الشعر يحضر في الحكاية من قبل، إضافة إلى دوره التزييني الذي نقرنه بميل البشر إلى ملء الفراغات الخرساء بالجميل الناطق لوناً وصورة، كان للشعر دوره في الحكاية من حيث تطويع الحكي وتطويره وتنمية شخوصه وحبكته. فاشتغل الشعر شفرة وتشفيراً وفعلاً وغواية وإغراء، واستدعى الاستكمال والإجابة.

لكن الرواية بحضورها الذي كتب عنه جورج لوكاش ووولتر بنجامين وجورج ستانغ ومن التالين أيان وات وغيره، وكذلك المؤرخون والنقاد العرب، تشهد غيبة الشعر. ولا يعني هذا غياب البنية الشعرية. إذ تحضر الأخيرة حتى في السرد التاريخي الذي دفع هيدن وايت إلى كتابة «الخطاب الاستعاري»، و«التاريخ التحتي أو المغاير: التخييل التاريخي في القرن التاسع عشر». أهمل هيدن وايت الرواية على رغم اعترافه بقرابة السرد التاريخي لمؤرخي التاريخ البشري وفلاسفته من روايات ستندال وبلزاك وفلوبير وتولستوي وديكنز ودوستويفسكي وغيرهم.

البنية التحتية

وفي الرواية العربية تحضر البنية الشعرية التحتية كما هو شأنها في السرد، سواء كان خطياً أم عمودياً ومتداخلاً أو متزامناً. لكنه يغيب حضوراً عند محفوظ مثلاً، كما لا يحضر إلا في كتابات تستعيد حياة الريف كما يفعل عبدالحكيم قاسم في رائعته «أيام الإنسان السبعة» عام 1969، والتي استعان فيها بقصيدة البردة للبصيري وبغيرها مما يشكل إيقاعات الذكْر الصوفي. أقول غاب الشعر، لكني من بين من أحضروه في رواية قصيرة ظهرت أيام ابتلاء العراق عام 1990 في عنوان «أوتار القصب»، ثم في «دون سائر الناس: انفعالات الرقم 46». لكن حضوره في التكوين السردي وبنيته الغائرة والبارزة واشتغالاته اللغوية – النصية كميدان التباس وفعل تحقق عند الياس خوري عندما بدأ مشروعه في هذا الاتجاه عام 1994 في روايته «مجمع الأسرار»، وهو المشروع الذي تتوجه روايته الجديدة الصادرة أيضاً عن دار الآداب عام 2016 في عنوان «أولاد الغيتو: اسمي آدم».

لعل المفردات والمسميات تشارك في صنع البنية التحتية، بنية الحنين والطلل والموت وما يفوح داخلها من غربة واغتراب، والتي تدعو الروائي إلى استعادة لازمته الأثيرة في الروايتين في أن «أول من وقف واستوقف، وبكى واستبكى كان آدم»، ثم تبعه امرؤ القيس حين أنشد يقول: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل/ بسقط اللوى بين الدَّخول فحومل. إذ إن «حنين سيدنا آدم إلى الماضي كان مزجاً للحقيقة بالرؤيا، وهذه أسّ الحنين إلى الأطلال الذي نراه في الشعر العربي القديم» (مجمع الأسرار، 44). سيكون امرؤ القيس مفتاحاً للكلام في الغربة، لهذا يستعين به آدم بن حسن دنون اللداوي، بائع الفلافل في نيويورك، وأنا السارد في مجموعة الدفاتر التي ظهرت الآن ضمن خديعة الرسالة والمخطوط لتتشكل منها الروايات الواعية بذاتها، أي تلك التي تحيل على كتابات المؤلف الياس خوري وما يتشابه معها أو يضيف إليها من كتابات آخرين كـ «خربة خزعة»، و«آرابيسك» لأنطون شماس، و«باب الشمس» لإلياس خوري رواية وفيلماً، و«رجال في الشمس» لغسان كنفاني، وكتاب الأغاني، الفصل الخاص بوضاح اليمن، والكتاب المشترك لمحمد بهجة الأثري وأحمد حسن الزيات عن وضاح اليمن.

هكذا، نسمع أصداء الشعراء في الغربة على لسان السارد المفترض آدم دنون الذي يعطي اسمه عنواناً فرعياً لـ «أولاد الغيتو». ولأنه يختار آدم من بين الأسماء التي تعطى له بعد التهجير الإجباري ويوم الحشر اللداوي في جامع دهمش حيث القتل الجماعي والإهانة المقرفة، تنز كلماته غربة لأن الحرف يمتزج بمعناه أمام الحياة والموت. لهذا، تأتي عبارته في الابتداء: «أنا لا أملك قبراً في بلاد لم تعد بلادي، كي أطلب أن أدفن فيها معانقاً أرواح أجدادي. سوف أعانق في هذا النهر – الهادسون حيث يوصي أن تحرق جثته وينشر رماده – أرواح الغرباء، وسألتقي بمن يجد في لقاء الغريب بالغريب نسباً يغنيه عن نسب أضاعه» (21). ويعلق السارد: «أعرف أنني الآن أنثر بيتين من شعر امرئ القيس بطريقة غير شاعرية، لكن ما همني، فلن يقرأ أحد هذه الكلمات بعد موتي، لأنني سأوصي بأن تحرق هذه الدفاتر معي كي ترمى هي أيضاً في النهر.

هذا هو مصير البشر ومصير الكلمات. فالكلمات تموت أيضاً، وتترك أنيناً نازفاً مثل الأنين الذي ينبعث من أرواحنا، وهي تتلاشى في ضباب النهاية» (21). لكنه يعود إلى امرئ القيس، وإلى دفنه على سفح تلّة يقال لها جبل عسيب بعدما تقرح جسده بعباءة الجذام التي أهداه إياها قيصر، فكان له أن ينشد:

أجارتنا إن المزار قريب/ وإني مقيم ما أقام عسيب/ أجارتنا إنا غريبان ها هنا/ وكل غريب للغريب نسيب (61).

لا يدع الياس خوري مؤلفاً الكثير للناقد كي يقتحم نصه الذي يعترف سارده بأنه لا اسم له، لأن آدم دنون صاحب الدفاتر المزعومة يقول في النتيجة: «سأكون مجرد راوٍ لما شاهدته وعشته» (418). وما شاهده هو مقتلة مسجد دهمش، ومقتل مدينة اللد. فيكون التساؤل: «هل رأى أحد في العالم جثة مدينة؟» (238). فالتعليقات النقدية والشروح والوثائق الخاصة بهذه المذبحة وغيرها تمتزج باستطرادات في الشعر والمجاز ومراجعات لرواد الحداثة ما بين عقلانية طه حسين التي تحذف الشعر الجاهلي وتدفن اللغة (69 – 70)، وبين جماعة الانبعاث الشعري التي قادت في نظره أو ساعدت في سيادة الفكر الاستبدادي (289). كل هذه تعين في تكوين البناء التحتي، بخاصة عندما تردف بالمراجعة التي يقدمها صوت السرد في مفاهيم اللغة والنحو، لأن هذه هي العتبة نحو الشعر الذي سيشتغل عبر مجازاته في تكون السرد بصفته المتوترة ما بين التوثيق والتلفيق والشعر ومجازاته.

الاستعارة الكونية

السارد، صاحب الدفاتر وموضوع السيرة، آدم حسن دنون، اليتيم الذي سيسمع حياته على لسان مأمون الأعمى الذي واصل البقاء في اللد، سيكون سبيل الاستعارة الكونية وتساؤلاً في (صمم العالم عن سماع صراخهم)، أي الفلسطينيين (31): فآدم سيرى الالتباس قائماً فيه، وفي اللغة، وفي صيغة المثنى، وفي كل ما حوله. ولأن الروائي عبر صوت السرد، موضوعه وفاعله، سيعيش هذا المثنى الذي كان قد تساءل فيه من قبل وقبل التقاء أبي الفرج الأصفهاني في (الأغاني): «لماذا لا يحذف من لغة العرب، مثلما حذف في كل اللغات القديمة» (37). وبعد قراءة الفصول الخاصة بوضاح اليمن وامرئ القيس وغيرهما، تبين لآدم حسن دنون، الراوي في أولاد الغيتو، أن المثنى هو غير ما يفهمه: «علّمني امرؤ القيس المثنّى، حيث تنقسم أنا الشاعر إلى نصفين، الأنا هي مرآة الذات المنكسرة على ظلال الشاعر في الصحراء، ويصير الحوار بين الأنا والأنا هو بداية العلاقة بين الكلمات والموسيقى» (38). وسواء كان امرؤ القيس حقيقة أم كناية كما يريد طه حسين في الشعر الجاهلي، فإن الشعر يمسح هذه الحدود بين الأنا وظلها، لذا تراه يصيح: (أنا لا أفهم كيف يدافع الكتّاب عن أبطالهم بالقول أنهم خياليون وليسوا واقعيين. تباً لهم، فأنا أعتبر هاملت حقيقياً أكثر من شكسبير، والأبله أكثر حضوراً من دوستويفسكي، ويونس أكثر واقعية من هذا الكاتب اللبناني [أي الياس خوري] الذي شوّه صورته في «باب الشمس» (38).

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.