انتهى المؤتمر العام العاشر لحزب حركة النهضة التونسي فجر 23 مايو الجاري . وأعلن الحزب عن نص بيان المؤتمر الختامي بعدها بيومين ، فيما تنتظر المزيد من أوراق المؤتمر الظهور في قابل الأيام وربما الأسابيع . وبخاصة تلك المسماة بـ”لائحة الخيار الاستراتيجي” ،والتى قد تحمل مضامين ومعاني الفصل بين السياسي والدعوي (الديني).
لكن العديد من المراقبين والمحللين لم ينتظروا .وتحت وميض إعلام يسعى وراء كلمات مثيرة كـ ” انقلاب ” و” تحولات ” ذهب الكثيرون الى أن النهضة في هذه اللحظة أقدمت على قطيعة مع ماضيها ” الأصولي الإسلامي “. وذهب آخرون برد الفعل الى التشكيك في تحول النهضة الى حزب حديث لايخلط الدين بالسياسة . بل والي اتهامها بممارسة الخداع.
نص البيان الختامي الصادر مساء يوم الخميس 25 مايو يسهم في صناعة هذا الوميض الإعلامي المبهر. تماما كما فعل ابهار عقد المؤتمر في طابعه “الاستعراضي” بالحشود التي حضرت وبالتنظيم المحكم وبالاخراج المتقن لفضاءات ورموز منصاته وقاعاته. وكذا باختيار رئيس ومؤسس الحركة ” راشد الغنوشي ” أن يطل قبيل المؤتمر من خلال حوار مع صحيفة ” لوموند ” الفرنسية ليطلق مصطلحات من قبيل” الحزب الوطني “وعبارات كـ “الخروج من الاسلام السياسي الى الديموقراطية المسلمة “. وفي السياق ذاته، حمل البيان الختامي عبارات لافتة كالقول بأن “الحزب اختار هوية جديدة تجعل منه حزبا وطنيا..وترك مجالات الاصلاح الديني لمكونات المجتمع المدني”وأن ” الحزب تجاوز عمليا كل المبررات التي تجعل البعض يعتبره جزءا من الاسلام السياسي “.. و” اختيار التخصص في الشأن والعمل السياسي”. لكن البيان ينص أيضا على تبني المرجعية الإسلامية .وهو بهذا يعود كي لايقطع مع الشمولية حين يقول :” والنهضة باعتبارها اليوم حزبا.
وأي محاولة لفهم مايجرى في ” النهضة ” الآن يجب ان تستدعي أن هذه الحركة التي نشأت امتدادا وتطورا لانخراط مؤسسيها وعلي رأسهم ” الغنوشي ” في تونس نهاية الستينيات مرت بمخاض عقود طويلة في علاقة السياسي بالديني . وفي نهاية الثمانينيات أقدم الغنوشي ورفاقه على الانتقال الى عنوان ” حركة النهضة ” كي يتقدموا للحصول على رخصة حزب سياسي لا يحمل في عنوانه كلمة ” الاسلامي”. ولكن مناخ القمع والاستبداد حال دون الحصول على الترخيص. والأهم أنه قطع مسار تطور ” النهضة ” ذاتها وأخره سنوات ، وإن كان قد دفع بالغنوشي والعديد من قيادات الحركة للهجرة الى أوروبا وفرصة الاحتكاك بحداثة الغرب وتياراته ومؤسساته الديموقراطية . وعندما عادوا الى تونس بعد ثورة 14 يناير 2011 وحصلوا على ترخيص “حزب حركة النهضة ” من دون وصف إسلامي تقدموا ببرنامج لانتخابات المجلس التأسيسي أكتوبر 2011 يتبني خطابا حداثيا.
إلا ان ممارسات على العكس من هذا الخطاب دفعت خصوم النهضة الى اتهامها بعدم تطابق الأقوال مع الأفعال وبازدواجية الخطاب . بل والثابت ان خطاب النهضة الحداثي سجل تراجعا في برنامج الانتخابات البرلمانية خريف 2014.
محاولة فهم ماجرى في مؤتمر النهضة العاشر يستدعى وضع الصراع بين الديني الأصولي وبين السياسي الحداثي داخلها وبين اتباعها في سياق مجريات الحياة الحزبية والتطور الديمقراطي بتونس بعد الثورة . وثمة معطيات هنا تؤخذ في الاعتبار . فالنهضة خسرت 400 ألف صوت من اجمالي 1.4 مليون بين انتخابات 2011 و 2014. لكنها وبعد انشقاقات “حزب نداء تونس ” حليفها الآن ومنافسها ونقيضها في السابق ومع ضعف اليسار المزمن تظل الحزب الأقوى والأكثر تماسكا في تونس. وهنا علينا أن نستدعى ان كتلة النهضة في البرلمان ظلت على حالها بدون نقص ولو بنائب واحد . .
وإجمالا تبدو ” النهضة ” في خطاب مؤتمرها العاشر تجاه الانفتاح على خارجها وعلى مشكلات تونس الاقتصادية والأمنية وبناء مؤسسات الدولة وكذا لجهة التخفيف من شروط الانضمام لعضويتها للخروج من إسر الحزب العقائدي المغلق وميراث العمل السرى تبدو أكثر الأحزاب على الساحة التونسية استعدادا للانتخابات المحلية والبلدية المتوقع لها الربيع المقبل . ومع فرص النجاح في هذا الاستحقاق ترجمة لعبارات الغنوشي عند افتتاح المؤتمر عن كون ” النهضة أصبحت جزءا من الدولة” . لكن مجريات المؤتمر تكشف أيضا عن مشكلات في الأفق. فالحزب الذي لم و لن يتخلص بسهولة من كوابح وعراقيل نشأته وتراثه مع الديني المقدس يعانى كغيره من الأحزاب المسماة بالليبرالية واليسارية أزمة إعمال الديموقراطية الداخلية ووطأة زعامة الزعيم الفرد .حتى ولو كان هذا الزعيم يقود حزبه الى المزيد من الحداثة . .
ولاشك ان تحولات حركة النهضة التونسية ليست وليدة لحظة عقد مؤتمرها العاشر ولن تتوقف مع انتهاء اعماله . وهي بالقطع ليست بالسهلة . لكن لا أحد يجادل في نجاح الحركة في أمرين مهمين : الأول انها خاضت وتخوض هذه التحولات من دون ان تحمل معها ازدواجية في التنظيم .فلم تبق هناك جماعة خارج الحزب والقانون تضغط على خيارات الحزب ومستقبله . والثاني انها اتخذت القرارات الصعبة التي تعلى تونس على الحزب حين اختارت التوافق الوطني والتنازل عن الحكم قبل نهاية عام 2013. وقبلت بقواعد اللعبة الديموقراطية ونزولها عن موقع الحزب الأول مع الانتخابات البرلمانية اللاحقة .