في تراث المجتمعات العربية، تربّع جمال المرأة على عرش القصائد والغزليات، وألهم كُتّاب القصة والرواية، كما اكتظت به الأمثال الشعبية، وأيضا أشهر اللوحات الفنية.
ثم وفدت إلينا ثقافة غربية، أعطت الجمال مساحة واسعة من الزخم، تحت مسمى مسابقات الجمال، تشهدها سنويا، أشهر العواصم العالمية مثل نيويورك ولندن وباريس وبرلين.
وتوسعت نسبة المشاركات في تلك المسابقات، فلم تعد تقتصر على المجتمعات الغربية، بل امتدت لتشمل المرأة في غالبية دول العالم، ورأينا أن منصب ملكة جمال الكون باتت تشغله فتيات من بعض الدول النامية.
وما كان الأمر ليفوت العرب، وتم تعريب تلك المسابقات، فلم تعد قاصرة على الغرب بل أضحت جزءا مهما من الثقافة الشرقية، وجرى إجراء بعض المسابقات وفقا لمقاييس تلك الدول، وأصبحنا نسمع عن تنظيم مسابقة لملكات جمال المحجبات (وفقا للزيّ الإسلامي)، وملكة جمال البدينات، ثم فوجئنا مؤخرا، في مصر، بدخول “الصعايدة” على الخط، وتم الإعداد لمسابقة جمال فتيات الصعيد.
المسابقات توسعت، لتشمل أدق التفاصيل الجسدية للمرأة، كمسابقات لأجمل “مؤخرة””، كما حدث في البرازيل، ومسابقة لأجمل “صدر” نسائي، ومؤخرا جرى الإعلان عن مسابقة نسائية سنوية لأكبر “أرداف”، إلا أن حكومة بوركينا فاسو منعتها كونها ذات طابع جنسي.
هذا التوسع أثار العديد من التساؤلات، عمّا إذا كانت تلك المسابقات، تُمثل فرصة للاحتفاء بالجمال، أم أنها مدخل لاختزال كيان المرأة في مجرد جسدها، ومن ثم امتهانه، وإدخاله سوقا كسوق الرقيق، بعد إخضاعه لقانون العرض والطلب، في تحديد مقاييس الجمال وعولمة مواصفات موحدة لأجساد النساء.
واعتبرت نيفين الشبراوي، خبيرة المرأة والموضة في مصر، مسابقات الجمال العالمية عنصر جذب للمرأة العربية، ونجحت الكثيرات منهن في تبوّؤ مكانة كبيرة واحتلال مراكز متقدمة فيها.
أصبحنا نسمع عن تنظيم مسابقة لملكات جمال المحجبات وفقا للزي الإسلامي، وملكة جمال البدينات، كما دخل “الصعايدة” على الخط، وتم الإعداد لمسابقة جمال فتيات الصعيد
الأمر إذن جاء انعكاسا للانفتاح الكبير الذي شهدته الثقافة العربية والشرقية في العقود الأخيرة، بفضل العولمة، وثورة الاتصالات، وانتشار وسائل الإعلام والقنوات الفضائية، التي تقدم برامج عديدة لاكتشاف المواهب وملكات للجمال.
وأضافت الشبراوي لـ”العرب”، أن المجتمعات العربية تغلب عليها الثقافة البدوية والدينية المحافظة، ومع مشاركة الفتيات العربيات في مسابقات الجمال الغربية حدث نوع من الرفض، خاصة من جانب التيارات الدينية التي اعتبرتها مخالفة للدين، لأنها تعرّي الجسد.
غير أن انتشار التعليم والثقافة والوعي لدى الفتيات وقناعتهن بأن هذه المسابقات ليست فقط مناسبة لعرض الجسد، وإنما تعتمد على معايير الثقافة واللباقة واللغات والمهارات المختلفة، جعلهن يقاومن الرفض المجتمعي ويقبلن على تلك المسابقات.
وترى سلوى عثمان، خبيرة الجمال والموضة في القاهرة، أن تحفظ البعض على مشاركة المرأة العربية والانفتاح العصري على تلك المسابقات ينبع من كونها ذات طابع غربي، قد لا يتواءم مع الثقافة العربية، وأن الغرب يحاول فرض ثقافته ونمط حياته على بقية الشعوب، لتضييع الهويّة والثقافة العربية والشرقية في إطار عملية تغريب للثقافة العربية، كما هو الحال في المجالات الثقافية الأخرى.
وقالت عثمان لـ”العرب”، إنه إذا كانت هذه المسابقات تناسب الثقافة الغربية، فإنها لا تناسب البيئة العربية المحافظة، ومن الأجدى بالمرأة العربية أن تناضل من أجل حقوقها السياسية والاقتصادية أولا، ثم تفكر بعد ذلك في مثل هذه الأمور التي وصفتها بالثانوية.
وخالفت وفاء إبراهيم، أستاذة علم الجمال بجامعة عين شمس في القاهرة، هذا الرأي، واعتبرت أن مسابقات الجمال الغربية لا تختزل المرأة في الجمال الجسدي فقط، كما يشاع، بل تقوم على العشرات من المعايير، وآخر ما يتم النظر إليه خلال المسابقة المعايير الشكلية، مثل الرشاقة والعينين والقوام.
وأشارت إبراهيم لـ”العرب”، إلى أن المسابقات تعتمد بالأساس على معايير الروح والثقافة والذكاء والإسهام الإنساني في العمل الخيري والمعارف العامة وكيفية التعامل مع المشكلات والأزمات، لذلك نجد أن كثيرا من ملكات الجمال العالميات يفزن بالمركز الأولى، ليس بناء على لون بشرتهن والذي قد يميل إلى السواد، بل لقدراتهن الذهنية ومعارفهن ومهاراتهن المختلفة.
وقالت أستاذ علم الجمال، أن النظرة الضيقة لتلك المسابقات الغربية، واعتبارها مخالفة للتقاليد المجتمعية والدينية، قد تغيّرت بشكل كبير، وهو ما انعكس في المشاركة العربية الواسعة فيها.
مشاركة المرأة العربية في المسابقات يعكس التطور الكبير الذي حدث في مسيرتها وتحررها من القيود المجتمعية والدينية المحافظة.. فالمرأة ليست فقط وعاء للإنجاب أو لخدمة ‘سي السيد’
لكن مع ذلك اعترفت الدكتورة وفاء، بأن الثقافة العربية الشرقية، مازالت تمثل تحديا كبيرا، أمام مشاركة المرأة العربية في المسابقات الغربية، نتيجة لنفوذ وسطوة التيارات الإسلامية في بعض البلدان العربية والتي تعتبر المرأة “عَوْرة”، ولا يجوز أن تنكشف على الآخرين.
والواقع أن البعض يعيد هذا الرفض إلى ما يسمونه بـ”الثقافة الذكورية”، التي تسيطر على المجتمعات العربية، إضافة إلى التقاليد المجتمعية التي ينظر بعضها إلى مشاركة المرأة في تلك المسابقات على أنه انحراف وانحلال وتقليد أعمى لنساء الغرب.
ولعل ذلك ما يفسر أن الفتيات المشاركات في تلك المسابقات، غالبا ما تأتين من بلدان أكثر انفتاحا، مثل لبنان ومصر والأردن والمغرب، بينما يندر أن تأتي من بلدان محافظة، مثل البلدان الخليجية، أو من ليبيا أو السودان.
وأكدت سامية الساعاتي، أستاذة علم الاجتماع بالقاهرة، أن تلك المسابقات ومشاركة المرأة العربية فيها يعكس التطور الكبير الذي حدث في مسيرتها وتحررها من القيود المجتمعية والدينية المحافظة.
وشددت الساعاتي في تصريحات لـ”العرب” على أن المرأة، ليست فقط وعاء للإنجاب أو لخدمة “سي السيد”، بل هي تمتلك الحق والقدرة على التعبير عن نفسها ومهاراتها، من خلال تلك المسابقات، فهي ليست مسابقات للتعري، كما يزعم البعض، وإنما مسابقات لاستعراض القدرات الثقافية واللغوية والمهارية والشكلية أيضا.
وقال الكثير من الذين يسمّون أنفسهم أنصار المرأة، إن مشاركة المرأة العربية في مسابقات ملكات الجمال الغربية، ساهم بشكل كبير في تبديد الصورة الذهنية الغربية السلبية عن المرأة العربية، والتي تقوم على اختزال المرأة في كونها منغلقة، وحبيسة المنزل، وليست لديها أيّ قدرات ثقافية أو مساهمات مجتمعية.
تلك الصورة رسّختها في الأذهان الأفلام السينمائية، حيث لا تظهر المرأة العربية إلا وهي وراء حجاب، أو من وراء “مشربية” (شرفة مغطاة) منزلها، كما أنه يتم تقديمها وليس لديها أيّ وعي بقضايا مجتمعها، وغائبة تماما عن العمل العام، وهي صورة غير حقيقية، حيث تبوأت المرأة العربية مكانة لائقة في الكثير من المجالات، الإعلامية والتعليمية والقضائية والوزارية والبرلمانية.
في تلك المسابقات يظهر جسر للتواصل والتفاعل بين الثقافات المختلفة في العالم، حيث تشارك في المسابقة فتيات من خلفيات دينية ومجتمعية وثقافية متنوعة، وهو ما يعطي الفرصة للتفاعل فيما بينهن وتبادل الخبرات والثقافات، ما يساعد على التعايش الثقافي والحضاري بين أبناء المجتمعات المختلفة، ويعد وسيلة ناجعة لمحاربة التعصب والتطرف ونفي الآخر.
ونجد أن الفائزة يتم اختيارها وفقا لمعايير موضوعية تعتمد على المهارات المختلفة، وليس لاعتبارات دينية أو عرقية أو ثقافية، لذلك نجد بعض الفتيات من دول نامية، مثل كولومبيا، يفزن على فتيات من دول متقدمة، مثل الولايات المتحدة وروسيا واليابان.
على كل حال، مهما كانت آراء المؤيدين أو الرافضين، فإن مسابقات الجمال ذات الطابع الغربي، بغض النظر عن الجدل حول جدوى وأهمية المشاركة فيها، أضحت جزءا من الواقع العربي، ومنتشرة بين أوساط الطبقة العليا والعلمانية، كجزء من صراع الحداثة والأصالة العربية، ولم تعد ملكية فكرية غربية، بل أصبحت ملكية عالمية تنظمها المجتمعات والشعوب وفقا لثقافاتها كما هو حادث في العالم العربي.