(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ…
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ۚ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا) (سورة النساء: 77 ـ 79)
ما لهؤلاء العقلانيين؟!
يعرفون أن عقولهم قاصرة عن الاطلاع على حقائق الحياة.
ويعترفون بأنهم أخف في موازين الكون عن الهباء، وأنهم يعيشون رذاذاً مرتجفة في مهب الأقدار. ويعترفون بأن عقولهم قاصرة عن فهم اتجاهات الأقدار، حتى يهربوا منها، أو يستعدوا لاستقبالها إن كان لا يجديهم الهرب، حتى لا تباغتهم باستمرار، فيكون لها وقع مكرر عليهم: وقعها بطبيعتها الساحقة الناتج من شعور الإنسان بأنه خاسر تحت وطأته، ووقعها بطبيعتها المباغتة التي تختطف بلا إنذار وبلا تمهل. ويعترفون أيضاً بأن عقولهم قاصرة عن فهم مصدر القدر: أهو الله؟ أم هو الإنسان؟ أو بعضه من الله وبعضه من الإنسان؟.
ويرهقهم الجهل الذي تعلن عنه الاعترافات، فيلجؤون إلى التساؤل عن مصدر القدر، علهم يفتحون ـ عن طريق التساؤل ـ باباً إلى حل مشكلة القدر، أو حل مشكلة مباغتة القدر لهم، على أقل تقدير حتى إذا جاءهم الجواب ـ الذي فتح عليهم، بالفعل، باباً إلى حل مشكلة القدر نهائياً، أو حل مشكلة مباغتة القدر لهم، في أسوأ الفروض تكرر جهلهم، فأضافوا إلى جهلهم بالقدر جهلاً آخر أضر، فلم يأذنوا لعقولهم بالامتداد مع الجواب إلى حيث المحاولة في أدنى الاحتمالات لتعليل القدر:
إما للمغالاة في عدم الثقة بعقولهم، حتى أنهم يتلقون القضايا العويصة بالعجز، فلا يغامرون بزج عقولهم في تعليل القدر، لاستبداد القنوط بهم إلى حيث اليأس حتى عن المحاولة، مع توفر الدليل السماوي.
وإما للمغالاة في الثقة بعقولهم، فيتساءلون غير مستعدين لمناقشة الجواب، وإنما يوجهون السؤال بروح الاستنكار، وهم يحاولون اللباقة في الاستنكار، فيمهدون له بالسؤال، زاعمين أن تعليل القدر حتى عند الأنبياء لا يعدو تعليلهم، فيوجهون السؤال إلى النبي (ص)، ليعلل القدر كما يعللونه، فيزحفون عليه باستنكار مصمم لا يدع مهرباً، ليتخذوها نقطة ضعف، يشككون بها النبي (ص) في دينه، أو يستحيونه عن دعوتهم إليه، فإذا وجدوا الجواب غير ما يحلمون، تلقوه بروح متطاولة مهزومة، فلا يناقشونه أبداً حتى يهضموه أو لا يهضموه، وإنما استبد بهم الجهل المكرر، فاستبدوا بمركزهم، واتكلوا على عقولهم القاصرة في تعليل القدر بأنه: وحش جبار، ينقض عبثاً وكيفما اتفق وعلى أي شيء، ليحطم ويفني ويبيد، لا لشيء إلا كفراً بالحياة والخير والجمال، ورغبة في التحطيم والإفناء والإبادة. وارتكازاً على هذا التعليل الارتجالي، يزلزلون حياتهم بهزات ليس لها أن تهز حياة الإنسان.
ولو تخلوا عن عتوهم أمام النبي (ص)، وتلقوا جوابه بروح التفاهم، لعرفوا: أن القدر شيء طبيعي، لا يرجف الإنسان، وإنما يرفعه من مرحلة دنيا إلى مرحلة أعلى، فهو ليس جاهلاً يرتطم بالإنسان عبثاً، وإنما هو هادف ينفذ رسالة لا يستغني عنها الإنسان: فالذي صمم الحياة، وأتقن كل شيء، لا يطلق القدر يخرط الأحياء بلا هدف. والذي شدد القبضة على الكون، حتى لا تنفلت جزيئة من جزيئات ذرة، عن مكانها الذي وظفت فيه، بإرادة منبثقة من نظام دقيق، متناسق مع نظام الكون، كذلك: شدد القبضة على القدر، حتى لا ينفلت من مكانه الذي وظف فيه، بإرادة منبثقة من نظام متناسق مع نظام الحياة.
وسيادة النظام في الكون مفروغ عن ثبوتها، لأنها مدعمة بالإرادة الخالقة المقتدرة التي لا أقوى منها، حتى يتمرد عليها أو يناقضها.
ومعنى سيادة النظام في الكون: أن كل شيء فيه يجري وفق نظام: (ترتب المسببات على الأسباب) الذي أجرى الله عليه الأشياء والأمور، حتى كان الكون الرحيب ـ بعوالمه الكثيرة المتداخلة ـ مركباً عضوياً واحداً، لا يفقد شيء من عناصره نسبته إلا ويتلاشى كله فسيادة النظام في الكون كله، تنتهي باختراق نظام: (ترتب المسببات على الأسباب) في شيء واحد، مهما كان صغيراً أو كبيراً. فكل نظام، يختل بخرق أصغر الصغائر له، بمقدار ما يختل بخرق أكبر الكبائر له.
واختلال نظام الكون، الذي يحدث بانفلات جزيئة ذرية من مكانها المحدد لها، يعادل أسوأ الفوضى في أضخم المجرات.
والقدر الذي يعرض نبتة خائبة لوطأة بهيمة، يتساوى ـ في دلالته ـ مع القدر الذي يعرض ألف منظومة شمسية للاحتراق. فالقدر، مهما كان صغيراً في مفعوله، فهو كبير في دلالته.
ثم: ما هو القدر؟
إنه بكل بساطة ترتب المسببات على أسبابها:
فسقوط الطائرة الآلية لانتهاء وقودها، قدر..
وموت الإنسان، عند عطل أحد أجهزته الحيوية، قدر..
وسقوط الفاكهة، لدى ثقلها أكثر من تحمل عودتها، قدر..
وتموج البحر، بهبة ريح أقوى من ثقل الماء، قدر..
وتقرح المعدة، بفعل الجوع الكثير، قدر..
وقصر العمر، على أثر قطيعة الرحم، قدر..
وسلامة الإنسان، نتيجة للصدمة، قدر..
وسعة الرزق، لليقظة المبكرة، قدر.. فترتب كل الآثار على المؤثرات، قدر.
وحيث أن الناس يعرفون قسماً من الأسباب المادية، ويراقبون سيرها نحو مسبباتها، يتوقعون تلك المسببات، فإذا حدث أحدها، تلقوه بالتوقع، وعللوا حدوثه بسببه. وحيث لا يعرفون أكثر الأسباب الروحية والمعنوية، وكثيراً من الأسباب المادية، لا يمكنهم مراقبة سيرها نحو مسبباتها، وتوقع تلك المسببات، فإذا حدث أحدها، تلقوه بالذعر، وعللوا حدوثه بالقدر، الذي اصطلحوه إسماً غامضاً لكل الأسباب المجهولة.
فالقدر في حقيقته هو: الحد الذي جعله الله للأشياء وفق نظام: (ترتب المسببات على الأسباب) الذي جرت عليه عادة الله في عالمنا هذا، المسمى بـ: (عالم الكون والفساد). وحيث أن أي سبب لا ينتهي إلى مسببه إلا بإرادة عامة من الله، فالقدر لا ينفذ إلا بإرادة الله تعالى.
فالقدر ليس شيئاً مخيفاً، وإنما هو أمر عادي. غير أنه كثيراً ما يصدمنا، ونفاجأ به، لا لشيء، إلا لأننا نجهل أكثر الأسباب الروحية والمعنوية، وكثيراً من الأسباب المادية. وأما الذين كانت لهم صفحات الكون مفتوحة، يقرؤون فيها الحقائق كما يقرأ أحدنا صحيفة يومية، فلم يكن القدر يباغتهم أبداً.
والقدر جزء من نظام الكون، الذي للإنسان تأثير فيه. لأن الله تعالى جعل كثيراً من تصرفات الإنسان، مؤثرات في قدره: فجعل صلة الرحم، والصدقة، والرحم، والدعاء… أسباباً لمسببات خيرة، هي بعض جزائه المادي الدنيوي. وجعل قطيعة الرحم، ومنع السائل، والظلم، والاستغناء عن الله.. أسباباً لمسببات شرة، هي بعض جزائه الدنيوي.
ومع إغفال تأثير عمل الإنسان في ما يجري على نفسه، فالله لا يقدر الشر للإنسان، لأنه خير محض، لا يصدر منه الشر. إذن: القدر الخير من الله، والقدر الشر من الإنسان.
فالقدر خيره، وشره من الله بمعنى: أن أي شيء لا ينفذ في الكون إلا بإرادة الله تعالى. والقدر الشر كله من الإنسان، بمعنى: أن الإنسان عمل سببه، فترتب عليه مسببه. وكذلك: قسم من قدر الخير من الإنسان، لأنه عمل سببه. وأما القسم الآخر من قدر الخير، الذي لم يعمل الإنسان سببه، فهو: فضل من الله، المبتدىء بالنعم قبل استحقاقها، وبلا استحقاق في كثير من الأحيان.
فالإنسان لا يعيش أبداً تحت رحمة القدر، وإنما يعيش ـ دائماً ـ تحت رحمة الله، وتحت رحمة تصرف نفسه في بعض الأحيان.
فالقدر ذاته ليس من صنع الإنسان، ولا للإنسان سلطان عليه، ولا راد له إن أبرم. غير أن بعض مبادئه من صنع الإنسان، وللإنسان سلطان عليه، ويمكنه من رده قبل إبرامه.
وهكذا.. يكون القدر من صنع الله، ومن صنع الإنسان، ويرفض الرد، ولا يرفض الرد. وعلى أي حال: فالقدر بعد اكتماله قدراً تيار يجري من فوق الإنسان، وليس له عليه سلطان.
وهذا.. من فضل الله، الذي منح للإنسان تأثيراً على قدره، ولم يجعله أداةً بائسة، يهيج به، دون أن يكون له تأثير على قدره. ولو شاء أن يفعل ذلك، لم يكن معقب لمشيئته.
والهزات التي تجتاح الإنسان، على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الهزات التي تجتاح الأولياء، الذين لم يعملوا شراً يجزون عليه بالشر، وهي لا تقدر لهم إلا لترفيعهم، وبعد موافقتهم كما قدرت الشهادة للإمام الحسين (ع)، لينال درجات لم يكن ينالها إلا بالشهادة، فأخبره جده الرسول الأعظم (ص) بذلك، فرحب بها غير مكره ولا مغرر به.
والقسم الثاني: الهزات التي تجتاح الآثمين، الذين عملوا شراً فاستحقوا به شرا. وهي تقدر لهم لإلفاتهم وتطهيرهم ومن دون موافقتهم أو إخبارهم. كالصدمات التي ترجف المؤمنين الآثمين.
والقسم الثالث: الهزات التي تجتاح الكفار المجرمين، الذين عملوا الشر حتى ارتكزوا عليه، فلا يقتلعون عنه، ولا يتجهون إلى الخير. فيقدر لهم الشر: تنكيلاً بهم، وتحديداً له، وإشفاقاً عليهم أن يتوغلوا في المزيد من الإجرام فيستحقوا المزيد من العقاب.