من أعجب ما يلفت الناظر في أمر شعر أبي الطيب، أنه منعكس على حياته انعكاسا شديدا. ومن تأمل يجده منقسما إلى ثلاث مراحل تكاد تكون واضحة المعالم. الأولى وهي مرحلة الصبا إلى ما قبل لقاء سيف الدولة، وهي مرحلة الثورة والاعتداد بالنفس، والطموح الذي لا يحده شيء، ولا يقف في وجهه أحد. وكان ينظر حواليه فلا يجد إلا نفسه حاملا لهموم العربية والأمة كلها، فهو غير راض عن حالها الذي آل إلى أن يتحكم فيه العجم وأعداء الدين والملة. فلا حلَّ إلا أن يحارب هؤلاء ولا يقيم على دخن، ولا يسكت عن ضيم، ولا يقبل أن يحكمه أحد. وانعكاس هذه الحالة على شعره واضحة، فهو الذي يبتدئ القصيدة مادحا، فيخلع على نفسه ما شاء من صور الإباء والفخر، حتى لا يكاد يترك للممدوح شيئا آخر يدل به. ثم يعطف عليه فيكون ما قال فيه مثل الذي قال في نفسه أو أدنى. فإما طموح أو سعي لفضيلة أو إباء.
وأشعاره في هذا لا تعد من كثرة، ويكفي أن يقول في طموحه لسائلة تسأله:
وسائلتي: ما أنت في كل بلدة
وما ترتجي؟ ما ابتغي جل أن يُسمى
ويكفيه أن يقول عن اقتحام المخاطر:
ردي حياض الردى يا نفس واتركي
حياض خوف الردى للشاء والنعم
إن لم أذرك على الأرماح سائلة
فلا دعيت ابن أم المجد والكرم
ويكفي أن يقول متوعدا بعد ذلك، من يحكم العرب من الضعاف، ومن يقودهم من العجم:
أيَمْلِكُ المُلْكَ وَالأسيافُ ظامئَةٌ
وَالطّيرُ جائِعَةٌ لَحْمٌ على وَضَمِ
مَنْ لَوْ رَآنيَ ماءً ماتَ مِنْ ظَمَإٍ
وَلَوْ عَرَضْتُ لهُ في النّوْم لم يَنمِ
ميعادُ كلّ رَقيقِ الشّفرَتينِ غَداً
ومَن عصَى من ملوكِ العُرْبِ والعجمِ
فإنْ أجابُوا فَما قَصدي بهَا لَهُمُ
وَإنْ تَوَلّوْا فَمَا أرْضَى لَها بهمِ
فهذا يبين رأي الرجل في كثير من الأمور، وتصميمه لخوض غمار الحرب في سبيل هذه الأمة العظيمة، التي صارت في أيدي الأعاجم.
فإذا انتقل إلى سيف الدولة، وجدت رجلا آخر غير الذي تعرفُ، فقد وجد في سيف الدولة كلَّ آماله، وكل طموحاته، فأفرغ عليه من نفسه كل ما يريد أن يقول عنها. ورآه شخصا مجردا منه، يراه كأنما ينظر في المرآة، فإذا مدح سيف الدولة فقد مدح نفسه، وإذا تحدث سيف الدولة عن المجد فذاك مجده، وإذا انتصر فهو نصر له. فمن أجل ذلك ألغى ذكر نفسه وانصهرت في شخصية سيف الدولة مثلما انصهرت حياته في حياته.
ولكن الرجل الذي بلغ في حب سيف الدولة والإخلاص له درجة لا يتصورها العقل أحيانا، ختم رحلته مع بطله المثالي بصورة مأساوية، فرحل عنه. ولم يجد بدا من أن يقصد أبواب الذين كان يهجوهم أمس، ويجلس إليهم ويسمعهم مديحه وقصيده راغما. فتحولت حياته وتحول تبعا لها شعره. ومات فيه الطموح، ومات البطل المثالي، وبقي شبح الخيانة والفشل وسوء الصحبة.
وامتد الأمر إلى نفسه، فلم تسلم هي الأخرى من تشاؤمه، ولم يعد يفرحه شيء في الدنيا، ولا يقنعه منها أن تمد له أيديها لتحتضنه. فقد ملَّ كل ذلك. فمن أجل ذلك تراه في شعره يبدأ مناجيا نفسه كالباكي على مجد مضى، والنائح على طلل درس. حتى يظن الممدوح في نفسه شرا، وما بالشاعر إلا أن كل آماله تبخرت وانتهت إلى حيث لم يكن يتصور أن تصل يوما.
فتراه إذا مدح، لم يكن كالذي كان من قبلُ. فذم زمانه وأهله. وإن هجا أقحم نفسه قبل من يهجو. فترى أن الرجل كان في حال من اليأس والبؤس على إقبال الدنيا عليه. ولا أدري أي قلب كان يحمل الرجل؟؟ ولا أي عقل كان لديه؟ ولكن الذي حصل عليه في هذه المرحلة الثالثة أن شعره صار خلاصة للتجارب السابقة التي عاشها كلها، فكان أكثره حكما وحديثا صادقا عن الدنيا وأهلها. لم يبلغ أحد فيما نرى ما بلغ.
عبد الحميد محمد العمري