يوماً بعد يوم، يزداد الحديث عن الأزمة التي تعيشها اللهجة الإماراتية خصوصاً في أوساط الشباب في ظل الانفتاح الكبير الذي تعيشه الإمارات وطبيعة المجتمع المختلط الذي تتقاطع فيه لغات وثقافات ولهجات عدة، ما فرض أنماطاً جديدة من التواصل، وربما سلوكيات جديدة، له تأثير على اللهجة الاماراتية المميزة والجميلة التي يهجرها الشباب إلى ما يمكن اعتباره لهجة بيضاء تفتقد الخصوصية.
وحذّر البعض من خطورة تجاهل إيجاد حلول عملية لهذا الأمر «لأننا سنجد بعد 25 عاماً أجيالاً بعيدة عن الواقع، لا تعرف مفردات الأجداد ولا أحاديثهم».
وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها العديد من الجهات المجتمعية والحكومية في هذا المجال، إلا أن المشكلة الحقيقية تبدو مستعصية، ناهيك عن منابعها التي يحيلها الكثيرون إلى أنماط تنشئة «خاطئة»، وغياب واضح للكفاءات الوطنية من المدرسة الإماراتية، وانحسار حيز تدريس «العربية»، وضعف الاهتمام بها وباللهجة المحلية المستمدة منها لدى الشبان.
في المقابل، تتمسك فئة أخرى بالأمل في إعلام وطني قوي، قادر على دعم الثقافة المحلية وحمايتها، وبرامج وطنية متكاملة تساند الجهود الفردية وتدعم حضورها في المشهد الاجتماعي المحلي.
ناقوس الخطر
لم تُخفِ الإماراتية فاطمة المغني، العاملة في مجالات البحوث الاجتماعية والنفسية والتربوية، قلقها على مستقبل اللهجة المحلية التي باتت مهددة اليوم في حضورها، إذ «بدأت هذه المشكلة تغزو بالفعل المجتمع الإماراتي ومنطقة الخليج بشكل عام، علماً بأن المفردة الإماراتية المحلية مستمدة من اللغة العربية الأم، وهي ليست بعيدة أبداً عن لغة القرآن الكريم»، وأضافت فاطمة «ليس من حقنا أن نعيب على الأهل حرصهم المبرر على التحاق أبنائهم بالمدارس الأجنبية، لكننا نراهن في الوقت ذاته على دورهم في دفع أطفالهم نحو التمسك بلهجتهم المحلية وتحدثها والتخاطب بها».
توطين التعليم
تتوقف فاطمة المغني عند موضوع النظام المدرسي والبيئة الأكاديمية التي تهتم بالدرجة الأولى باستقدام الخبرات الأجنبية على حساب الكفاءات الوطنية، قائلة: «لا توجد نسبة توطين حقيقية في التعليم، رغم أن المدرس المواطن يمكن أن يسد ثغرة مهمة في هذا المجال، ولو تحدثنا بشكل مفصل، لوجدنا أن القائمين على إعداد المناهج الدراسية من الإخوة العرب لا يعرفون خصوصية اللهجة الإماراتية وتعددها بين أهل البحر والبر والجبال والصحراء، وهذا ما لمسته بشكل دائم من خلال زياراتي الدائمة إلى بعض المدارس ومحاضراتي فيه».
بعيداً عن الأزمة
واعتبر المدير التنفيذي لمؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة، جمال بن حويرب، أن لا أزمة حقيقية تواجه اللهجة الإماراتية في صفوف الشباب، مؤكداً أنه «لا توجد أزمة في اللهجة الإماراتية، وأنا أرى أن الشباب الإماراتي متمسك أكثر منا بلهجتنا المحلية، وقد لمست ذلك عبر علاقتي اليومية بالأولاد»، مضيفاً أن الطفل الإماراتي الذي يلتحق في مراحل دراسته الأولى بمدرسة أجنبية، يجد نفسه مضطراً للتعامل مع هذه اللغة، لكنه سرعان ما يعود إلى الحديث بلهجته الإماراتية التي تعبر عن هويته وتنسجم مع عاداته اليومية». وأكد بن حويرب أن مسؤولية دعم وتكريس اللهجة وحضورها الفاعل بشكل أوسع، يقع على عاتق الإعلاميين ورجال الأعمال والمؤثرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، قائلاً: «لنعترف أن ما يقدم عبر شاشات التلفزيون هو لهجة بيضاء لا تحمل خصائص اللهجة الإماراتية المتسمة بالتنوع والغنى، والتي تتفرع إلى لهجات يتقنها أبناؤها ويعرفون مفرداتها الخاصة بشكل جيد»، وأضاف «لا يمكن اعتماد التدريس باللهجة المحلية، لأن المناهج تنطق بلسان الفصحى، لكننا نستطيع في المقابل تكريس حضور اللهجة المحلية عبر وسائل الإعلام ومن خلال وسائل التواصل الاجتماعي من خلال التذكير الدائم بمفرداتها وعباراتها، والمبادرة بتنظيم اللقاءات والندوات والورش التعريفية التي يتصدى لها الكبار في السن ممن يتقنون اللهجات المحلية وتفرعاتها ليستفيد منها الشباب، ويسهم في التكفل بها وتمويلها رجال الأعمال عبر مبادرات فردية تتبنى قضية اللهجة وتعتبرها وجهاً من أوجه تكريس الانتماء للوطن والفخر بالهوية الوطنية».
حضور محلي
لا تبدو الصورة بهذه القتامة بالنسبة للإعلام المحلي في الإمارات، الذي يظهر أنه ساعٍ، عبر وسائله السمعية والبصرية، إلى تكريس حضور مكثف للهجة المحلية ومفرداتها وكذلك شخوصها. وأكد المدير التنفيذي لقطاع الإذاعة والتلفزيون في مؤسسة دبي للإعلام، أحمد سعيد المنصوري، على قيمة وأولوية هذا التوجه الريادي، قائلاً: «تتمتع قناة سما دبي التي انطلقت في عام 2005، بنكهة خليجية، ناطقة باللهجة الإماراتية، إذ تسعى القناة إلى مخاطبة كل شرائح المجتمع الإماراتي والخليجي»، لافتاً «تقوم القناة على صعيد دعم اللهجة الإماراتية والمحافظة على التراث الشعبي والإنساني لدولة الإمارات، من خلال قائمة برامج تتنوع ما بين البرامج المحلية والتراثية والبرامج الموجهة إلى فئات الشباب الإماراتي، منها ما تم تقديمه الصيف الماضي».
وختم المنصوري بالقول: «تطول قائمة البرامج ذات النكهة الإماراتية التي تم تقديمها عبر شاشة سما دبي، ويكفي أن نذكّر الجمهور ببرامج مثل راعي الشلات، راعي القصيد، خطار، الراوي، المندوس، سرد الذاكرة، كشتات، الإمارات هذا المساء، وعشرات المسلسلات والأعمال الدرامية الإماراتية المهمة ومسلسلات الكرتون المحلية، مثل فريج وشعبية الكرتون».
وعي وانفتاح
من الواضح أن المشهد مختلف نوعاً ما بالنسبة لرئيس معهد الشارقة للتراث، الباحث عبدالعزيز المسلم، الذي أكد ابتعاد محطات التلفزة في منطقة الخليج العربي عن إنتاج البرامج المحلية وانحيازها نحو اقتناء البرامج والأعمال الجاهزة التي يتخذ معظمها صيغة «الدوبلاج» أو «فورمات» برامج أجنبية جاهزة، الأمر الذي يكرّس ابتعاد الجيل الجديد عن اللهجة المحلية، مع انتشار وسائل التكنولوجيا الحديثة يحتاج المرء إلى خطوات طويلة ومرهقة للدخول إلى بعض تطبيقات المحطات العربية الرقمية لمتابعة برنامج معيّن أو مسلسل محلي، في حين أن الأمر لا يحتاج سوى لدخول سلس وسهل إلى خدمة «نتفليكس» التي أصبحت متوافرة للجميع بمحتواها الأجنبي المرن والمتوافر بكبسة زر واحدة، وهذا أمر يدفع بحد ذاته الكثيرين إلى تفضيلها على المحتوى العربي «صعب المنال». وحول أسباب تزايد عزوف الشباب عن استخدامات اللهجة وتفضيلهم «الإنجليزية»، أشار المسلم إلى تحول الأسرة الإماراتية الممتدة عبر الآباء والأجداد في البيت الواحد في فترات السبعينات والثمانينات إلى الابتعاد اليوم، بحكم ظروف الحياة المتسارعة وأماكن العمل البعيدة، واعتمادها الذي بات مفرطاً على وجود «الخادمة» التي تنقل بشكل مباشر لغتها ولهجتها إلى الأطفال، لافتاً «في السابق، لم تطرح هذه المعضلة، بحكم انفتاح آبائنا وأجدادنا على الآخر بطريقة لا تخلو من الوعي والعقلانية، ولا ننسى أن الإنجليز أثناء تواجدهم في المنطقة خلال القرن الماضي، جلبوا معهم ثلاث لغات، هي الفارسية والهندية والسواحلية، فكنا نرى الإماراتيين الأوائل يتقنونها كلها مع اللغة العربية طبعاً واللغة الإنجليزية، وكان الواحد منهم يتحدث لهجته الإماراتية بطلاقة من دون أن تشكل بقية اللغات واللهجات الأخرى حاجزاً أمامه».
جمال وتنوّع
ودافع المسلم عن جمالية اللهجات المحلية وتنوعها وثرائها التي دفعت إحدى الجامعات في مدينة برشلونة الإسبانية إلى طلب إضافتها إلى مناهجها إلى جانب الفصحى «لهجاتنا الإماراتية قادرة على استيعاب مختلف الفنون كالشعر والقصة والحوليات. في المقابل، يبقى تعزيز الهوية الوطنية وتكريس حضور اللهجة الإماراتية شأن الإعلام والثقافة والأدب والمناهج الدراسية، ومتوقفاً على برنامج وطني متكامل لا على جهود فردية متفرقة فحسب. نعول على المدارس الإماراتية المستحدثة من قبل وزارة المستقبل، لأن فيها تأكيداً وتعزيزاً للغة العربية واللهجة الإماراتية».
العائلة أولاً
وتلفت الإماراتية خلود محمد، إلى دور الأسرة وأهمية تمسكها بمبادئ اللهجة المحكية داخل البيت، قائلة: «للأسف يعمد بعض الأهالي إلى اعتماد الإنجليزية لغة للتواصل في المنزل، توفيراً للوقت والجهد، وتسهيلاً لدور الخادمات والمربيات داخل البيوت، بالإضافة إلى أن معظم أطفال هذه الأسر يتم إلحاقهم بمدارس خاصة تعتمد الإنجليزية لغة للتواصل اليومي، وهذا يبدو خطيراً للغاية، لأنه وإن مسّ اللهجة فإنه يطال كذلك العادات والتقاليد والهوية، من هنا ينبع أثر الأسرة المسؤولة عن تجذير قيم الهوية والأصالة التي تنطلق من اللغة الأم، ومن ثم اللهجة التي تدافع عن كينونتها وتفرض وجودها». من جهة أخرى، تتوقف خلود عند الدور الإيجابي الذي يلعبه الجد والجدة في العائلة الإماراتية قائلة: «يمكن أن يساعد تواجدهما في نقل بعض أوجه الثقافة المحلية ومفرداتها الثرية للجيل الجديد، أذكر منها ما يتعلق بالأمثال الشعبية التي يتعلق بها آباؤنا ويتكئون عليها في أحاديثهم، ما يدفع أطفالنا إلى الفضول ومن ثم السؤال عن مغزاها ومفرداتها»، وتختتم قائلة: «إذا لم نسعَ بكل جهودنا إلى الاعتزاز بلهجتنا وحمايتها من التلاشي، سنفقد خطانا، ونسجن بين قضبان الحداثة ووهم الانفتاح على الآخر».
تنشئة سليمة
ينسحب دور الأسرة على تجربة صدف العوضي (ربة بيت) التي تتحدث ابنتاها الصغيرتان الإنجليزية في سن قد تبدو مبكرة جداً للبعض، وذلك بسبب تواصلهما اليومي مع المربية واستخدامهما الألعاب الإلكترونية وفيديوهات اليوتيوب والصور المتحركة على الخلوي والأجهزة اللوحية، ولكن الأم تظل حريصة على دفعهما ووالدهما نحو تحدث اللهجة المحلية التي يعتمدانها في عملية التواصل بينهما، إذ أكدت العوضي «نحن حريصان على تلقينهما اللهجة الأصلية، وسعيدان برؤيتهما يتحدثانها معنا داخل البيت، خوفاً من صعوبة استساغتها وتلقيها في مرحلة لاحقة، ومن ثم التكيف مع اللهجة المحلية وعادات وتقاليد المجتمع الإماراتي منذ التنشئة الأولى التي يبدأ فيها الطفل في تلقي اللغة الأم والتحدث بها واستعمالها في بداية تواصله مع من حوله (من 2 – 4 سنوات)، وهذا بحد ذاته جهد يجب على الوالدين الوعي به واعتماده في تربية الأبناء منذ الصغر»
سعي للحل
قبل أن تتخصص في اللسانيات، وتدرسها في الجامعة، تعي الدكتورة منى الفقيه دورها كأم ومربية، وتؤمن بتنامي مسؤولية أولياء الأمور وإدراكهم أهمية دعم اللهجة اليوم مقارنة بالماضي، فقد بات الأولياء اليوم خريجي جامعات ومثقفين وعاملين واعين بقيمة «روح اللغة» التي هي جزء من الهوية، ومن ثم متنبهين لمشكلة تدني استعمالها في الحياة اليومية، فتراهم يناقشون المسألة ويتطلعون إلى الحلول، فأنا عن نفسي، لم يتوقف تحفيظ القرآن في بيتي للأولاد، وكذلك مدرسو اللغة العربية، لعلمي بعدم قدرة البرامج المتاحة في المدرسة على استيفاء شروط ترسيخها لدى التلاميذ». وكشفت الفقيه، بالاعتماد على مسح أجرته على نماذج طلابها وطالباتها، قدرة 80% منهم على التعرف الى معاني مفردات إماراتية قديمة، انتقتها من المسلسل التراثي «أجحفان القطو»، واستعدادهم لمواصلة البحث فيها، وتكوين حلقات نقاشية حول موضوعات التراث الشعبي الذي يعتبرونه محطة اهتمام وأولوية عاجلة لديهم.
خطر «الافتراضي»
لا تنكر فاطمة المغني، الدور السلبي الذي لعبته ولاتزال وسائل التواصل الاجتماعي وعوالم الافتراضي في تكريس ثقافة الآخر، وبالتالي النأي عن الثقافة الشعبية المحلية، داعية في الوقت نفسه إلى استحداث قوانين ملزمة في هذا الصدد وقادرة على مواجهة المد المتعالي للثقافة الأجنبية التي باتت تغزو يوميات شبابنا وتشغله عن مكتسباته الثقافية وموروثه الشعبي».