الحمد والشكر نعم الله سبحانه على عباده كثيرةٌ ومتنوعةٌ؛ منها نعمٌ مادية، وهي جميع ما خلق الله للإنسان، ومنها نعم روحيةٌ، وهي الدين الذي أرسله الله سبحانه لإسعاد العباد في الدنيا والآخرة، وهذه من أجَلّ النعم وأعظمها وأكملها، فيحمد العبد الله سبحانه ويشكره على جميع نعمه التي أنعمها عليه، المادية والروحية منها، حمداً كثيراً طيّباً مباركاً.[١] مفهوم الحمد الحمد في اللغة من مصدر حَمِد، والحمد ضد الذم، ومن هذا يقال المحمدة خلاف المَذمّة. وقد كثُرت مُشتقّات لفظ الحمد التي ارتبط أكثر وجودها بحمد الله عزّ وجلّ خاصّةً، مثل: التحميد؛ وهو أبلغ من الحمد، والمقصود به حمد الله سبحانه مرّةً بعد مرّةً. ومنها نقول: رجلٌ حُمَدَة، وحمّاد ومُحمّد، أي أنّه يحمد الله مرّةً بعد أُخرى، أو هو كثير الحمد. و(محمد): هو من كثُرت وتَعدّدت خصاله المحمودة. و(أَحمد): أي صار أمره إلى الحمدِ، أو قام بفعلِ ما يُحمد عليه. قيل في المثل: والعَوْدُ أحمدُ، بمعنى أكثر حمداً؛ لأنّ الإنسان غالباً لا يرجع إلى شيء إلا بعد أن يعرف خيرته، أي الابتداء محمود والعود ألزم وأحقّ بأن يحمدوه. يُقال: فلانٌ محمود إذا حُمِد، والحَمْدلة هي كناية عن قول (الحمد لله)، وقول القائل: (الحمد لله) بمعنى الثناء على الله سبحانه بصفاته الذاتيّة الكاملة، الخالية من النقص، وبنعمه سبحانه الكثيرة التي لا تعدّ ولاتحصى. والحميد هو الله سبحانه، وهو من صفاته العليا اسم من أسمائه الحسنى، أي بمعنى المحمود على كلّ حال. الحمد في الاصطلاح ثناء العبد باللسان على الجميل الاختياري. فيُقال: حمدتُ الرّجل، أي بمعنى: أثنيتُ عليه بفعلٍ جميلٍ قام به اختياره.[٢] مفهوم الشكر لشكر لغةً الاعتراف بالإحسان، يُقال: شكرت الله وشكرت لله وشكرت نعمة الله، فالشكر لغةً ظهور أثر الغذاء في جسم الحيوان، ويُقال الشكور من الدواب الذي يكفيه العلف القليل، أو هو الذي يسمن من العلف القليل. والشكر عكس الكفر؛ فهو الثناء على الُمحسن بما أعطاه من معروف. يُقال: اشتكر الضرع بمعنى امتلأ الضرع لبناً. والشكر الزيادة والنماء. الشكر في الاصطلاح ظهور أثر النعم الربانيّة على العبد في القلب إيماناً، وفي اللسان حمداً وثناءً، وفي الجوارح عبادةً وطاعةً.[٣] والشكر يكون على ثلاث منازل: الأول: شكر القلب، وهو الإيمان، الثاني: شكر اللسان، ويكون بإظهار النّعمة بالذكر لها والحديث عنها، والثناء على من أسداها، قال سبحانه وتعالى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ).[٤] الثالث: شكر العمل، وهو إخضاع النّفس بالطّاعة.[٥] قال الله سبحانه وتعالى: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا).[٦] وفي الحديث: (قام النبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- حتى تورَّمَتْ قدَماه، فقيل له: غفَر اللهُ لك ما تقدَّم من ذَنْبِك وما تأخَّر، قال: أفلا أكونُ عبدًا شَكورًا).[٧] الفرق بين الحمد والشكر اختلف العلماء في الحمد والشكر؛ هل تُعتبر ألفاظاً مُتباينةً أم مُترادفةً، أم بين اللفظين عموم وخصوص؛ فالذين قالوا بالتّباين نظروا إلى انفراد كل لفظٍ منها في المعنى، ومن قال بالترادف نظر إلى جهة اتّحادها وإمكانيّة استعمال كل واحد من اللفظين في مكان الآخر، وأما الذين قالوا باجتماعها وافتراقها بين الخصوص والعموم فقد نظروا إلى الأمرين السابقين معاً. وهذا هو ما عليه الأكثر في الاستعمال. والفرق بين الحمد والشكر يحتاج إلى بيانٍ وتفصيل، وخلاصة ما قيل فيه ما يأتي: إنّ لفظ الحمد يُطلقُ للثناء على المحمود بجميل ما فيه من صفات وأفعال ونعم، أمّا الشكر فهو ثناء العبد على المحمود بنعمه فقط. وعلى هذا القول فالحمد أعمّ من الشكر؛ فكلّ شكر هو حمد، وليس كلّ حمد يُعتَبر شكراً، ولذلك ورد حمد الله سبحانه نفسه ولم يرد شكره. وهو كما الحال في حالة التفرقة بين الحمد والمدح؛ فالمدحُ أعم من الحمد ذلك أنّ المدح يكون للعاقل ولغير العاقل، ولا يلزم في المدح كون الممدوح مُختاراً، ومن هنا كان وصف اللؤلؤة بصفائها ونقائها مدحاً لا حمداً، أما الحمد فإنّه لا يُطلَق إلا للفاعل المُختار على اعتبار كون الصفات المُتّصف فيها والمحمودة له صفات كمال، ويكون الحمد صادراً عن عِلم وليس عن ظنّ، وبهذا القول يكون الفرقُ بين هذه الثلاثة كالآتي: المدح يكون أعمّ من الحمد، والحمد يكون أعمّ من الشكر.[٢] الفرق الثاني بين الحمد والشكر يكون من حيث العموم والخصوص؛ فالحمد يكون أعمّ فيما يقع عليه،؛ فالحمد يقع على الصّفات اللازمة والصّفات المُتعدّية، فيُقال: حمد فلانٌ فلاناً لفروسيته وشجاعته ولكرمه. فالحمد وصف المحمود بصفات الكمال اللازمة والمُتعدّية مع المحبة وتعظيم المحمود في القلب، ولا يخفى أنّ مدار الأعمال صلاحاً أو فساداً ينبني على القلب. قال رسول الله -عليه الصّلاة والسّلام-: (إنّما الأعمالُ بالنياتِ، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرتُه إلى دنيا يصيُبها، أو إلى امرأةٍ ينكحها، فهجرتُه إلى ما هاجر إليه).[٨] قال -عليه الصّلاة والسّلام-: (إنَّ الحَلالَ بيِّنٌ وإنَّ الحَرامَ بيِّنٌ وبينَهمَا مشْتَبَهَاتٌ لا يعْلَمُهُنَّ كثيرٌ من الناسِ؛ فمنْ اتَّقَى الشبهَاتِ استَبرَأَ لدينِهِ وعِرضِهِ، ومن وقعَ في الشبهَاتِ وقعَ في الحرامِ، كالراعِي يرعَى حولَ الحِمَى يوشِكُ أنْ يَرْتَعَ فيهِ، ألا وإنَّ لكلِ ملِكٍ حِمً، ألا وإنَّ حِمَى اللهِ محَارِمُهُ، ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ وإذَا فَسَدَتْ، فسدَ الجَسدُ كُلُّهُ، ألا وهِيَ القَلبُ).[٩] قال ابن تيمية شيخ الإسلام -رحمه الله-: (الحمد يكون بالقلب واللسان، وأما الشكر فهو أخص من حيث الوقوع؛ فالشكر لا يكون إلا مع الصفات المُتعدّية. يُقال: شكر فلاناً لكرمه، ولا يُقال: شكره لفروسيته وشجاعته،. فالشّكر يكون جزاءً على نعمة انتفع بها، بينما يأتي الحمد جزاءً كالشكر، ويأتي ابتداءً).[١٠] الحمد ثناء العبد على الممدوح بصفاته من أن يسبق إحسان الممدوح، وأمّا الشكر فهو ثناء على المشكور بما قدّم وأجزل من الإحسان، وعلى هذا القول قال علماء الإسلام: الحمد أعم من الشكر. وهناك قول أنّ الحمد والشكر مُتَقاربان، والحمد أعَمُّ لأنَّ العبد حمَد الممدوح على صِفاته الذاتيَّة وعلى كثرة عطائه، ولا تَشْكُره بالتالي على صِفاته.[١١] فضل الحمد وردت أحاديث كثيرة في فضل الحمد عن الرسول -عليه الصّلاة والسّلام-، منها: روى البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (كلمتانِ خفيفتانِ على اللسانِ، ثقيلتانِ في الميزانِ، حبيبتانِ إلى الرحمنِ: سبحانَ اللهِ وبحمدِه، سبحانَ اللهِ العظيمِ).[١٢] عن أبي مالك الأشعري قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: الطَّهورُ شطرُ الإيمانِ، والحمدُ للهِ تملأُ الميزانَ، وسبحان اللهِ والحمدُ للهِ تملآنِ (أو تملأُ) ما بين السماواتِ والأرضِ، والصلاةُ نورٌ، والصدقةُ برهانٌ، والصبرُ ضياءٌ، والقرآنُ حُجَّةٌ لكَ أو عليكَ، كل الناسِ يغدُو فبايِعٌ نفسَه فمُعْتِقُها أو مُوبِقُها).[١٣] قال رسول الله -عليه الصّلاة والسّلام-: (إنَّ اللهَ اصطفى مِنَ الكلامِ أربعًا: سبحانَ اللهِ، والحمدُ للهِ، ولا إلهَ إلَّا اللهُ، واللهُ أكبَرُ، فمَن قال سبحانَ اللهِ كُتِبَ له عشرون حسنةً وحُطَّتْ عنه عشرون سيِّئةً، ومَن قال اللهُ أكبَرُ فمِثْلُ ذلك، ومَن قال لا إلهَ إلَّا اللهُ فمِثْلُ ذلك، ومَن قال الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ مِن قِبَلِ نفسِه كُتِبَتْ له ثلاثون حسنةً وحُطَّتْ عنه ثلاثون سيِّئةً، وفي روايةٍ: مَن قال سبحانَ اللهِ كُتِبَ له عشرون حسنةً وحُطَّتْ عنه عشرون سيِّئةً مِن غيرِ شكٍّ. وفي روايةٍ: فمَن قال سبحانَ اللهِ كُتِبَتْ له عشرون حسنةً وحُطَّتْ عنه عشرون سيِّئةً، ومَن قال الحمدُ للهِ فمِثْلُ ذلك، ومَن قال لا إلهَ إلَّا اللهُ فمِثْلُ ذلك، ومَن قال اللهُ أكبَرُ مِن قِبَلِ نفسِه كُتِبَ له ثلاثون حسنةً وحُطَّتْ عنه ثلاثون سيِّئةً).[١٤] فضل الشكر ثبت فضل الشكر في الشريعة من أوجهٍ كثيرةٍ، منها:[١٥] إنَّ الله سبحانه وتعالى أثنى في كتابه العزيزعلى أهل الشكر، ووصف أفضل خلقه بذلك، فقال عن نوح عليه السلام: (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا).[١٦] إنَّ الله عز وجلَّ جعل الهدف من الشكّر تفضله بالنعم، قال سبحانه وتعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).[١٧] إنَّ الله وعد الشاكرين من عباده بأحسن الجزاء، فقال: (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ).[١٨] إنَّ الله سبحانه وتعالى قد سمّى نفسه شاكراً شكوراً، وذلك بأن يقبل العمل القليل من العبد ويثني على فاعله، قال سبحانه وتعالى: (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ).[