كتبت جنى جبور في “الجمهورية”: يبدو أنّ العلوم الطبّية على أبواب عصر جديد وثورة تقنية قد تُنهي عصر الأدوية باستخدام الجينات التي تتميّز باكتشافها الخلل مبكراً وإصلاحه من مصدره. فهل نحن امام مستقبل يمنع الإصابة بالأمراض أو يمكّننا من تغيير صفاتنا وسلوكنا؟
منذ ان وُجد الانسان على سطح الارض وهو يخوض حرباً شرسة مع المرض، وشهد عالم الطبّ طوال مراحل الصراع تطوّرات كبيرة تركت آثارها الإيجابية على علاجات الامراض المختلفة. فهل يمكن التنبُّؤ بمستقبلنا الطبي؟
في هذا السياق، قال الاختصاصي في علم المناعة، والباحث في مركز الابحاث التابع للمركز العالي للدكتورا في الجامعة اللبنانية الدكتور حسان سعيّد: “يمكن تشكيل خريطة جينية لأيّ شخص من خلال فحص دم خاص، ومن هذه الخريطة يتم تحديد وجود جين معيّن قد يعرّضنا للاصابة بأيّ مرض لاحقاً. على الاثر، تسمح هذه الخطوة بتشخيص الامراض مبكراً وبالتالي التعامل معها ومنع وجودها واستمرارها. أمّا في المستقبل، فمن الممكن تخايل توجّه المريض الى المستشفى لاستبدال الجين الطفرة المشوّه واستبداله بآخر جديد. وهذا التبديل يتمّ من خلال علم الهندسة الوراثية لتحسين القدرات العقلية (ذكاء- ذاكرة)، وايضاً لإبقاء الجسم بمواصفات أقوى، والعيش لفترات اطول والحدّ من العجز المبكر”.
خريطة جينية للشعوب
الجينات هي عبارة عن مواد كيميائية موجودة في نواة كل خلية، ويمكن القول بشكل عام إنّ البنية الوراثية متشابهة ولكنّ التعبير عنها يختلف بين خلية واخرى. حديثاً، زاد الكلام عن “العلاج بالجينات”، فما المقصود بذلك؟
بحسب د. سعيّد “بشكل مبسّط، يعتمد العلاج بالجينات على استخدام موروثة لادخالها في خلية من اجل اصلاح موروثة فاسدة او خاطئة او لا تعمل، كنوع من امراض الدم مثلاً الذي يتمثل بعدم قدرة الدم على التخثر الناتج عن نقص عامل يساهم في تخثر الدم والذي يُصنع في الكبد، فلو استطعنا إدخال الى الكبد، الموروثة التي تجعل هذا العنصر التخثري الناقص (يُصَنَع في الكبد)، لكان توقّف هذا المرض. وفي التفاصيل، يمكن الوصول الى هذه النتيجة، من خلال وضع هذه الموروثة ضمن ناقل لها، ويكون عادةً «فيروس» معدّل، ينقلها الى الكبد، فتدخل ضمن الكروموزونات، في الخلايا الكبدية وتبداً بتصنيع هذا العامل، ما يؤمّن الشفاء.
وفي مثل هذه الحالة، من الممكن توجيه الفيروس الحامل للموروثة الجديدة عبر الدم المتصل بالكبد. كل هذه العلاجات، ما زالت حتّى اليوم في مرحلة الاختبار، ولكن مستقبلاً، من الممكن العمل ضمن مشاريع وأبحاث لإنشاء ذاكرة ومخزون جيني للشعوب، كدراسة او فهم الموروثات الجينية للشعب اللبناني مثلاً. فتكون الخريطة الجينية لشعبنا واضحة، والحلم أن تصبح الخريطة الوراثية الكاملة موجودة لكل شخص ضمن ملفّه الإلكتروني في مؤسّسات الرعاية الصحية. ويمكنني الجزم أنّ مستقبل الطب هو مستقبل طبّ الشخص او الطبّ الدقيق، أي أنّ كثيراً من العلاجات والادوية سيتمّ وصفُها بفعالية ودقة أكثر، تبعاً للمكوّنات الجينية لكل مريض، وبالتالي نظرية “One size fit all”، لن تعود مناسبةً أو مقبولة في العلوم الطبية”.
تغيّر الصفات والسلوك؟
في هذا الصدد، سؤال مهم يطرح نفسه: “هل يمكن التحكّم بصفات وأخلاق الشعوب من خلال تغيير الجينات؟ يقول سعيّد: «على رغم بساطة هذا الطرح، الّا أنّ ربط الجينات بالسلوك امر خطير جداً، ولا يمكن الاستهانة به. فتخيّلوا لو تحدثنا عن شخص انه عنيف اكثر من الآخرين كون جيناته تمتلك هذه الخاصية، وبالتالي في حال ارتكابه جريمة ما، فتلقائياً يجب أن يكون الحُكم مختلفاً، او مثلاً وجود شخص، يبرّر تعاطيه للمواد المخدّرة بطبيعته الجينية التي تفرض عليه ذلك. ويمكن القول إنّ الانسان، يربّى على السلوك ويكتسبه من بيئته وعائلته، كما لا يمكن أن تقبل ايّ مؤسسة في العالم إعادة هيكلة موروثات الشخص”.
الهندسة الوراثية
الحديث حول العلاج بالجينات يجعلنا نتحدث عن الهندسة الوراثية التي تطورت بشكل هائل جداً. وبينما كانت الدراسات سابقاً تأخذ الكثير من الوقت لمعرفة دورها، اصبح بإمكاننا حالياً معرفة ذلك في يوم واحد.
ويوضح د. سعيّد أنّ “اكتشاف بنية الموروثات للانسان الواحد، استغرقت 13 عاماً وبتكلفة بليون دولار، ومجهود دول عدّة في ما بينها. بينما اليوم، وبكلفة لا تتعدّى الـ 2000 دولار، يمكن ارسال ايّ عينة من خلايا الشخص، في ظرف الى احدى الدول والحصول على البيئة الوراثية الكاملة خلال يومين. وفي التفاصيل، إنّ التطوّر الجديد على مستوى الهندسة الوراثية أو ما يُسمى بالـ”CRSPR”، يعتمد على استخدام طريقة تعتمدها البكتيريا للدفاع عن نفسها، فيتم استعمال هذه الامور البيولوجية لتعديل وازالة وتبديل الجينات من أيّ مكان. وتُعرف الهندسة الوراثية أنها أداة في العلاج الوراثي، ويمكن استعمال الـ”CRSPR”، لعلاج بعض الامراض الخطيرة:
السرطان
من أهم الامراض المستهدفة بالعلاج الجيني، وهناك جهد كبير لمواجهة جميع أنواع السرطانات. وما زال هذا الموضوع يلزمه بعض الوقت، وهناك أمل كبير بصناعة نتائج مميّزة خلال الـ15 سنة المقبلة.
الإيدز
تتم تجربة هذه التقنية، على مصابين بالفيروس في معظم خلاياه، وقد لوحظ حتّى الآن أنّ هناك امكانية للتخلص منه بنسبة 80 في المئة.
الشلل
تمّ التوصل الى نتائج مبشرّة بعلاج أمراض اخرى كالشلل مثلاً، ولكن ليس بالعلاج الجيني، بل من خلال استخدام تكنولوجيا الخلايا الجذعية (بعض أمراض الجهاز العصبي).
النظر والسمع
من الناحية النظرية، يمكن علاج النظر والسمع بواسطة هذه التقنية، ولكن اولوية الابحاث تتّجه الى الامراض التي لا تمتلك آليات علاجية تقليدية (كالامراض المستعصية)».
الجنين والامراض الموروثة
أكثر من 3000 مرض، يمكن انّ يورثه الطفل فهل يمكن تنفيذ العلاج الجيني على الجنين في رحم امه، للحدّ من اصابته؟ يشير د. سعيّد الى أنّ “هذا الموضوع دقيق جداً، وفي حال اكتشاف جين مشوّه، يمكن استبداله بجين آخر سليم، لاسيما أنّ عملية تشخيص امراض الجنين، داخل الرحم اصبحت سهلة وواردة جدّاً من خلال ادوية او اعمال جراحية معيّنة. أمّا عن أمان تنفيذ هذا الخطوة، فمن المعلوم أنه لا يوجد ايّ علاج آمن بنسبة 100 في المئة، ولكن يرتكز الموضوع على كيفية تنفيذ ادخال الجين.
ولكن، مازالت هذه العلاجات تحت الاختبار، ولا توجد ايّ موافقة بعد على ايّ علاج جيني من قبل ادارة الغذاء والدواء “FDA”، باستثناء أوروبا حيث تم قبول حالة واحدة في امراض نقص المناعة والتي تعرف بـ”SCID” (عن طريق ناقل للمورثة). وبالنسبة لحالة طفل الانبوب فهناك فرصة لأخذ خلية وفحصها بالكامل وتحديد الشيفرة الوراثية، وتعديل المورثات ومن ثم اعادتها الى رحم الام، حيث يتم اصلاح هذه المورثات خلال 3 أيام. وفي حال اكتشاف جينات مشبوهة، فعندها لا يتم زرعها”.
وداعاً للأدوية
بالطبع ستكون هناك محاذير لهذا العلاج، لا سيما الأخلاقيات والدين لضبط عمل الهندسة الوراثية، خصوصاً مع امكانية تغيير الصفات الشكلية (طول، وزن، ذكاء، قوة…)، فهذا كله فرفوض من قبل العاملين في هذا المجال.
ويختم د. سعيّد حديثه قائلاً إنّ “التنوّع جزء مهم جدّاً في العالم الذي نعيش فيه واذا فتحنا الباب امام التعديلات الشكلية سيصبح هناك انتقاء عبر الزمن والوقت، وسيتم نبذ بعض الفئات في المجتمع، وتفضيل فئات اخرى تتمتع ببعض الخصائص. والابرز في هذا الموضوع، هو أنه من المتوقع استبدال الادوية مستقبلاً بعلاجات الـ«Biodrugs»، التي يمكن ان تكون على شكل جين أو خلية جذعية أو هرمون أو بروتين”.