الطهاة يحولون النباتات البرية إلى أطباق غير عادية
المكونات البرية ليست جديدة على المطبخ الهندي، فمنذ زمن بعيد كانت هذه المكونات، مثل نبات السرخس وعشبة القراص والتوت والبراعم والدرنات وغيرها، تؤدي دوراً مهماً في المطبخ الهندي. ولكن بمرور الوقت، وبسبب تأثير الاستعمار، افتقدت النكهات المحلية هذه المكونات.
وتشير دراسة موسعة بعنوان «النباتات البرية الصالحة للأكل في الهند»، نُشرت في المجلة الدولية للبحوث الأكاديمية، إلى أن هناك نحو 800 نوع من النباتات التي يتم استهلاكها بوصفها نباتات برية صالحة للأكل تؤدي دوراً حيوياً في الأمن الغذائي. ورغم أن معظم هذه النباتات البرية قد اختفت من المناطق الحضرية، فإن المناطق الريفية والقبلية في جميع أنحاء الهند لا تزال تستهلكها في طعامها.
– حب الطهاة للأكل البري
في كل مرة يقوم فيها براتيك سادو، وهو الطاهي الرئيسي في مطعم «ماسك» في مومباي، بزيارة المناطق الجبلية، فإنه يجلب معه ما يقرب من 100 كيلوغرام من النبق البحري، وهو نبات ينمو في شجيرات صغيرة في جبال الهيمالايا، وله كثير من الفوائد الطبية، ثم يقوم بتحويل هذا النبات إلى طبخات متعددة النكهات، مثل كريمة النبق بالليمون مع موس الفلفل الأسود.
وفي مطعم «ماسك» لا توجد قائمة طعام محددة، حيث يقول سادو: «ينصب تركيزنا على البحث عن الأطعمة، ولذا قمنا بصياغة مفهوم يسمح لنا بالقيام بذلك. ففي مطعمنا، كل ما عليك فعله هو ذكر تفضيلاتك من الطعام، مع إعلامنا في حال كان لديك تحسس من أطعمة بعينها، ثم اترك الفريق يتولى المسؤولية».
ومنذ افتتاح مطعم «ماسك» في 2016 وهو يقدم الأطباق الشهية الغريبة من الخضراوات الموسمية البرية، مثل نبات السرخس والكرز البري والتوت، وأصناف غريبة من البرقوق والفطر البري وعشبة القراص وفطر التشانتيريليس المنكه بالثوم والطماطم الشجري والسبانخ البرية، التي أصبحت جميعها من أفضل الأطباق لدى عشاق الطعام في مومباي.
ويتحدث المدير التنفيذي لـ«ماسك»، أديتي دوغار، عن تجاربه مع الكستناء، قائلاً: «لقد بحثنا عن الكستناء، ولدينا الآن مجموعة متعددة من الأطباق المصنوعة منه، مثل بروليه الكستناء الذي يتم تقديمه داخل قشرة الكستناء نفسها، وطبق الكستناء مع جبن الكاسيكوفالو (من ولاية أندرا براديش) والحميض البري». ويشير دوغار إلى أن فلسفة البحث عن الطعام هذه قد وجدت طريقها إلى الحانة الموجودة بالمطعم أيضاً، حيث يقول إن «عامل الحانة يحاول استخدام المكونات نفسها التي يتم استخدامها في المطبخ أيضاً في أثناء إعداد المشروبات».
والنكهات التي تضفيها هذه المكونات البرية على الأطباق، وطريقة تقديمها، هو ما يجعل رحلة البحث عن مكونات برية جديدة بمثابة نشاط محبوب للغاية لدى الطهاة.
وبالنسبة لبوغا بانغتي وتيسخيم لينراه، صاحبي مطعم «ميراكي» الذي حقق نجاحاً كبيراً في مومباي عام 2018، فإن فن البحث عن الطعام يسمح لهما بتقديم لمحة من مطابخ الشمال الشرقي الغنية لسكان مومباي وهم مطمئنين، وتقول بانغتي التي قدمت أطباقاً من التيميلا (التين البري) والكافال (التوت الأحمر): «المعرفة التي استمددناها من سكان قريتنا أبقتنا على اتصال بثقافتنا».
وأنهى الشيف تيغاس سوفاني، الذي يرأس مطعم «أمارانتا» في فندق «أوبروي» بمدينة غورغاون الهندية، مؤخراً دورة تدريبية استمرت لمدة 3 أشهر في مطعم «نوما» في الدانمارك. ويتذكر سوفاني أن البحث عن الطعام كان يبدأ في الصباح الباكر، مع وجود قائمة بالمكونات اللازمة لوضع قائمة الطعام. وفي بلده (الهند)، كان سوفاني وفريقه يتجولون في أسواق البلدات الصغيرة، بحثاً عن المكونات الموسمية الرئيسية والوصفات الإقليمية، التي يستخدمونها فيما بعد في تجارب مستمرة لوضع قوائم الطعام. وبالمثل، فإنه يمكن أن تجد نبات السرخس المقلي أو أكلة مثل الثوران بزهرة الموز، وهو طبق تقليدي لدى سكان مدينة كيرلا، جزءاً من قائمة الطعام الخاصة بمطعم مثل «كارافالي» في فندق «غيتواي» الهندي.
وتستخدم سلسلة فنادق «آي تي سي» أيضاً النباتات البرية في قوائم الطعام لديها منذ سنوات طويلة. وفي فندق «آي تي سي غاردينيا»، يستخدم الطاهي الرئيسي في مطعم «كوبون بافيليون»، يوغين داتا، براعم الخيزران التي يتم جلبها من غابات ولاية كارناتاكا في بداية الرياح الموسمية، ويتم تقديم طبق مطبوخ من هذه البراعم، يؤكل مع الأرز الأحمر. وبالمثل، يستخدم مانيشا بهاسين، كبير الطهاة الرئيسيين في فندق «آي تي سي موريا»، زهور شجرة المورينغا المقلية في بوفيه المطعم. وهناك مكون آخر يتم استخدامه في الخبز الهندي في بافيليون، وهو نبات أجاستيا أو لسان النمر، وهو نبات غني بالألياف الغذائية وفيتامين «ب» والأحماض الأمينية.
ويقول توماس زاخارياس، الطاهي الرئيسي في مطعم «بومباي كانتين»، بمومباي: «أسافر كثيراً، ولديّ مبادرة تسمى (#Chef_On_The_Road). ومن خلال هذه المبادرة، فإننا نقوم بالبحث باستمرار، وما نجده يشق طريقه إلى قائمتنا. وقبل بضع سنوات، كنت أقوم برحلة للبحث عن الطعام في سيكيم، وذلك بحثاً عن مكونات جديدة في هذه الولاية، ووجدنا شجرة بها فواكه خضراء صغيرة، أخبرنا المرشد الذي كان معنا حينها أنها أفوكادو برية. وبعد أيام قليلة، أخذت هذه الثمرة التي تعد في حجم الليمون إلى مؤتمر تيرا مادري الذي تنظمه شركة «سلو فود إنترناشيونال» الهندية في شيلونغ، وهو منصة للنقاش حول أنظمة الغذاء المحلية وتحدياتها. وقد التقيت أحد الزعماء القبليين من المكسيك في المؤتمر، الذي كان في حيرة شديدة من مظهر الثمرة. وعندما قمت بشقها حتى يفحصها بشكل جيد، قضم الرجل قطعة صغيرة منها، ثم تمتم ببضع كلمات بلغته الأم، وحينها كان يبدو أنه قد فهم أخيراً علاقة هذه الفاكهة الصغيرة بالأفوكادو، وهي الفاكهة القديمة التي نشأت في بلده الأصلي منذ آلاف السنين».
جولات الطعام
لا يقتصر نشاط البحث عن الطعام على المطاعم فقط، فيقوم كوش سيثي، الذي يرأس قسم التواصل الرقمي لمهرجان دلهي للجولات، بجولات بين سبتمبر (أيلول) وفبراير (شباط)، وتشمل الأماكن التي تشهد الجولات حدائق لودهي، لاكتشاف النباتات الصالحة للأكل، مثل نبات الخبيزة الذي تم تصنيفه على أنه عشبة ضارة، ويقول سيثي: «تصنيف النبات على أنه ضار يجعله عديم الفائدة، ويشجع الناس على إلقاء القمامة في المساحات التي يُزرع فيها»، ويتابع: «إذا قام شخص ما بالترويج لنبات معين بوصفه مفيداً من الناحية الطبية، فإن النظرة إليه كلها ستتغير».
وتروي الكاتبة الهندية بورابي شريدهار ذكرياتها من جولاتها للبحث عن الأكل البري في أثناء طفولتها، التي كانت تقضيها وسط الحقول الخضراء والغابات في شيلونغ، وتقول: «هناك نوع معين من الـ (الأوراق الخضراء الهندية) التي تنمو فقط بالقرب من جيوب صغيرة من المياه الموحلة الراكدة. وأتذكر ذهابي إلى هناك مع بعض الأصدقاء لمساعدتهم على جمعها، ولكن كانت النتيجة هي حصولي على عقاب شديد في المنزل بسبب اتساخ ملابسي بالوحل». كما كان لنارين ثيمياه، وهو الطاهي الرئيسي في فندق «غيتواي» في بنغالورو، تجارب مماثلة في طفولته في البحث عن نبات السرخس الذي ينمو بشكل موسمي بفضل الأنهار والبرك في كوداغو، إذ يقول: «كانت أمي تعد خلطة رائعة من السرخس مع البصل والفلفل الأخضر والخردل».
وفي الماضي البعيد، كانت المكونات البرية، مثل السرخس والقراص والتوت والبراعم والدرنات وغيرها، تؤدي دوراً مهماً في المأكولات الإقليمية، خصوصاً في الأماكن القبلية في الهند.
ويجادل بعض ناقدي الطعام بأن هذه المكونات، التي يتم الحصول عليها من مواقع ليس بها محطات قطار أو اتصال جوي مباشر، لا يتم نقلها بشكل جيد. ولكن المتحمسين لها، مثل بانغتي، الذين نشأوا في جبال الهيمالايا، يرون أن هذه هي الأماكن التي يتم فيها استخدام تقنيات الحفظ القديمة، حيث تقول بانغتي: «لدينا مجموعة متنوعة من السبانخ المحلية، تسمى السبانخ الجبلية. وفي كل شتاء، تقوم والدتي بتجفيفها في الشمس. وبمجرد حفظها، فإنه يكون من السهل إعادتها لحالتها الأصلية، وذلك من خلال وضعها في الماء المغلي، ومن ثم طهيها مع الخضراوات الموسمية الطازجة لإعداد الأطباق، كما أنني استخدم الأساليب الحديثة، مثل التجميد، لضمان احتفاظ المكونات بنسيجها ومحتواها المائي».