تسجيل الدخول

الشاهد الصامت

واحة الأدب
زاجل نيوز1 فبراير 2017آخر تحديث : منذ 8 سنوات
الشاهد الصامت

index

كنا صغارا و نحن نلتحف السماء، يتغشانا الليل بظلمته، نتغامز بيننا من تراه يحصي النجوم عددا فيشتعل رأسه شيبا؟. نُسمع أصداء ضحكاتنا حين ينجلي ما تبقى من سهاد، و نقبض على جلابيبنا و نربطها في مئزر لننصب خفافا فخاخا للطيرالمتسلل من فجاج النور، ليقبض على تلك الديدان المتراقصة على قضيب من حديد، و لكنني كنت على غير طريقتهم، عندما كانوا يتسابقون لنزع رأسه كنت أسارع لأميزه ذكرا كان أم أنثى، و أحاول أن أستعيد من ذاكرتي لحظة سقوطه من جناح السماء أو سهما من بين أغصان الزيتون و الزيزفون؛ فتنطلق من حولي عبارات ساخرة ساذجة: “لا بد أنك عرفت الآن أن الذكر رأسه مرفوعة، و أن الأنثى خفيض رأسها…” كنت يا جين أدرك أن الذكورة هاجس و مرض لا يمكن التخلص منه هكذا ببساطة، و أن جميع وحوش الأرض و بهيمها مشترك في تلك الغريزة، و لكن الرجولة مختلفة يا عزيزتي كل الاختلاف عن تلك المهاترات الصبيانية الحمقاء، و أصدقك القول أنه حينها أسررت في نفسي: “أن الأنثى أشجع من الذكر و رأسها مرفوعة كما هي أمي…” و لكني لم أشأ إفساد لذة الطير المشوي. قدر لي منذ صغري أن أجمع الأسرار كحاوٍ، رغم أنها لا تعنيني و لا أتصيدها، لكنها كانت تأتيني على طبق من ذهب؛ أتصدقين حدوث أمرٍ كهذا؟. عندما تعقبت تلك العضاءة الصغيرة التي يصيب قومي فزع مجنون عند رؤيتهم إياها و تتسابق الأحذية و الأرجل على حد سواء لدوسها و تعذيبها، حجتهم في أمرهم هذا “أنها هي من نفثت النار على سيدنا إبراهيم في الأخدود”؛ لقد خفت حينها يا عزيزتي من مقدار الجهل الذي نحن فيه، فقد أطبق بمخلبه على عقولنا و صرنا نتباهى بغباء سديم، عندما تبعتها لم تكن غايتي قتلها أو إلحاق الأذى بها، بل كانت غايتي عكس ذلك تماما كنت راغبا في التحدث معها لعلي عُلمت قبل أن أُخلق منطق الطير و الحيوان فتخبرني عمّا فيها من شقاء، عندما غاصت بذلك الشق في الجدار مودعة إيايّ و عيناها كانتا قد قلبتا المكان و صورتي معه مئات الآلاف من المرات، لتغيب هذه المرة مخلفة لي رؤية سالم بوضعية لم اختبرها من قبل، و لم أعرف إلا حينها أن أناسي هذا المكان يخفون الكثير، و يزيفون لوجوههم أقنعة كثيرة، بالكاد استطعت أن أبتلع الشهقة التي كادت أن تفلت مني، ما كان يفعله سالم ابن الأربعة عشر عاما شيء لم أعرف أنه ممكن الحدوث قبل هذا، أن تلك القطعة اللحمية بين فخدي لها شكل أخر، يفعل فعلته في تلك الخرابة البعيدة عن أرجل أهل القرية و أعينهم، و التي خلفتها أسرة عبد القادر بعد موتهم عن آخرهم، و لم يخلفهم في بيتهم أحد، الذي غدا خرابة تحاك حولها أقاصيص عن السلماني و عن الأعور و عن ذي الرجل المسلوخة، فقط لتجعلنا ننام في فراشنا دون أن نترك أي جزء من جسدنا يتنفس ضوء السراج العويل. كنت واثقا من رؤيتي لخفاش صغير أو لقط بائس أو هيكلا عظميا لضحية ما، لكنني أسقطت من دائرة تفكيري الصغيرة أن أجد سالم مؤذن المسجد و قائم الدرس فيه بمثل هذه الوضعية المريبة، و جسده لا تبارحه انتفاضة و رعشة، سارعت بلملمة نفسي و أطلقت ساقي للريح و أنا أنفض عن عيني ما خيل إليها من قبح، قد فاض بئري بجحيم الأسرار، لكني أعلم أن السر يموت إذا ذاع، فذرعت إلى الجبال المحيطة بقريتي لعلي أُلقي عن كاهلي من عناء ما حُملّتُ غصبا، أذعت الخبر لكل حجر همسا و صراخا، في المغاور غنيته و لطخت عينيّ بالوحل من تلك المستنقعات كي أبصر السواد هو فقط ما سعيت حقا لأبصاره، ليس به أي صورة تذكرني بسالم. هجرت المسجد و ما عادت تؤلمني لسعات سياط أبي ذي القبضة الخشبية، و لم تذرف من مقلتيّ دمعة واحدة، أتعلمين أقذر شيء في الوجود؟ أن يأتي الفاجر قديسا؛ لقد جاءني سالم مرتديا عمامته مسبغا على جسده عطرا من سواك، ليرشدني و يخرج الجن الذي تلبسني، نظرتي إليه مليئة بالازدراء و بصاقي الذي جمعته من كل جسدي كان ذا رائحة و لون مائل للصفرة الداكنة، و مضيت أقطع الطريق جريا يطرق سمعي استعاذتهم بالله مني، و أبي و كل من في البيت صغيرا أم كبيرا يتوعدني بعصا تدمي جسدي فلا أرجو من بعده شفاء؛ لم أدر كيف ارتدت فراشي أمنا مطمئنا بعد أن كادت فجاج النور أن تشق طريقها إلى العتمة، إلا أن ضوء السراج كان قويا من حجرة أبي و نشيج عمتي يذوب في أذنيّ بين حين و آخر، ما أدركته جليا “أن أبي يتوعد عمتي بالعقاب إن هي رفضت، و أمي بينهما تهدئ من روع عمتي و تذكر أبي بالصلاة على النبي، و اسم علي المحمود يسقط بين كل كلمة و يذرف مع كل عويل.” أدركت حينها أن صيد علي المحمود ذي الستين عاما هذه المرة كان عمتي، بعد أن خرجت القرية قبل بضعة أيام لدفن زوجته الرابعة، و التي لم تتجاوز أوراقها العشرين، تعددت الأقاويل التي تناقلتها الألسن و التي برع خيالنا بتشخيصها؛ “لقد قتلها و مزقها و لم تستطع الداية أن تمنع بحر الدماء النازفة منها…” لقد كانت تلك المسكينة واحدة من بنات راجح العشر، التي اختارها لتكون زوجة تتبع زوجات قد قضين… ربما نسيت القرية منظر زينب و قد خرجت من بيته يسترها شبح الليل و قد غشي الغمام نور القمر، و قد حلت شعرها و قد كستها حمرة دامية تقطر من كل جسدها، صراخها و هذيانها أيقظ سراج أهل القرية و نوره يبحر على صفحة من خدوش عميقة و دماء، و لم يستر جسدها إلا رداء افترسه وحش ضارٍ، آوتها حينها نسوة القرية لكن النهار أخفى أثرها و لم يدر أحد عنها بعد ذلك شيئا. صراعات تدور رحاها على أرض الضعفاء، بما كان يفكر أبي؟ ما الذي سولته له نفسه فعله؟ ولمَّ اختار علي المحمود أن تكون عمتي صفية ضحيته القادمة؟. لم تكن عمتي صفية إلا فتاة كبقية فتيات قريتنا، بجديلة طويلة تتعدى خصرها النحيف، و عينين كحيلتين لا تخلوان من أحلام بزوج و بيت، بحبيب تشعل له حياته بقناديل من نور و حب؛ لم أعهدها يوما غير غارقة بأعمال البيت، دون ذلك الكم الهائل من الملابس المتسخة و بين القدور و على رأس المعجن و عند الفرن تطبع بيديها رغيف الخبز، لم تكن عمتي صفية لتركن في مكان واحد بل كانت الحياة نفسها قبل أن يستحيلها علي المحمود إلى مومس..نعم الحياة مومس، و من قبل أن تعشق صبري و يرق قلبها له، دون أن تعلم أنه رغم حسن سيرته في القرية فحقيقة عشقه لابنة المختار، لم تظهر للعيان بعد، تتساءلين كيف لي أن أعرف تلك الحقيقة و لم يعرفها أحد؟ ألم أقل لك عزيزتي جين أن القدر قد سير لي سيرهم، و قدر لك ذلك ربما قبل أن أمزق كل الحروف المتكدسة في رأسي و أنثرها في بحر يسمى النسيان، أو أصهرها في بركان لتقذف حمما تلسع الناس بأكاذيبهم؟. كان تلاقيهما في مغارة الضباع أعلى الجبل تبعد مقدار ثلاث ساعات من النهار للوصول إليها، ليلة السبت عرفت بهما، كان ذلك منذ أمد لا أخال ميعادهما قد تغير!… لا أدري كيف عرفت ذلك السر؟ لكنني أذكر جيدا أنني كنت أسير بين حجارة الجبل و صخوره لأنقش على كل صخرة لم يصلها اسمي، ربما وحدتي هي من جعلت شرودي بين دمامل و ثآليل الجبل أمرا له نكهته، فلم تكن ذات لون واحد و إن اختلف ملمسها و حجمها، كنت مختلفا عن الذين رضوا بالحقيقة على علاتها و سلموا أمر بقاءهم في الأسفل. لم أدر كيف انقض النعاس على ما تبقى من يقظتي و رحت أنبش تحت الصخر و أنبش و إذ بي لا أرى سوى الظلام يتلقفني في تلك الحفرة، و ضحكات تنال مني من كل صوب فتقبض قلبي و تقبضني متعثرا إليها؛ فقمت من غفوتي فزعا و بيدي قبضة من أشواك، نالني من لسعاتها ما جعلني أقبض على جمرها و قد تنادى إلى مسمعي حينها في الثلث الأول من الليل و هزيعه ضحكات أنثوية، لم يكن في الجبل المترامية أطرافه سوى القسوة و الخوف و مقابر الجبناء، نزعت الأشواك من يدي و كلي مشغول بتتبع ذلك الصوت، حتى تراءى لي خيال إنسي على ضوء مشعل صغير. في مغارة الضباع طيف من شراسة و قد كانت شراسة البشر عندي أشد فتكا من شراسة الضباع، عندما اقتربت من تلك الفسحة الضيقة بين الصخرتين المتعانقتين ككبش و قد انقسمتا إلى نصفين، حيث يمكنني أن أرى فيما وهبني إياه المشعل صبري و ابنة المختار، كيف لي ألا أعرفها و وجهها و جسدها الغض تعرفه كل القرية؟ لقد غدوت شاهدا على تلك القبلة التي انطبعت على خدها و هي تتماوج بضحكتها، عندها اقشعر بدني فانقضضت على نفسي أهشمها بنحيب عميق و أنا ألعن ذلك اليوم الذي قدر لي فيه أن أتعلم فن الوحدة؛ لمَّ عليّ أن أتعذب بحمل أسرار لا تقوى على حملها الجبال؟ عندما رفعت رأسي ثانية لأبتلع نشيجي كان النور قد ذهب و ذاب السكون في وحشة المكان، خالجني شعور و أنا أنزلق من الجبل ككتلة من الوحل، أني رغم كل شيء اختبر كل موطئ لقدمي حتى في العتمة؛ منيت نفسي حينها أن ما رأيته كان أضغاث أحلام، و مع الأيام أبصر وهن عمتي صفية و هي ترسل نظرها إلى البعيد، و يزيد شرودها و هي تبتلع غصات و حسرات ثم تبتلع ضحكتها، و تمسح بطرف ثوبها دمعة قد انزلقت من عينيها و هي تراه بعيدا عن البيت عند الشجرة الخروب العتيقة، فتعرج إليه ليتسامرا متعانقة عيناهما كتمثالي تمر عسلي، يصيبه قطر من آمال حين يغلظ لها الأيمان: أنه لم يعشق امرأة سواها، ثم يسهب بنظم شعر غزلي أوهن من بيت العنكبوت، كم أحمد الله أنه لم يمس شعرة من جسدها! فعمتي صفية أقدس من العفة ذاتها، لكني رغم ضعفي و قلة حيلتي لن أقوى على الصمود أمام حزنها و انكسار قلبها؛ كم عليّ أن أتحمل و أنا مسيّر في مركب يمخر عباب الرمال بلا أشرعة و الهبوب تلفحه.. تقلبه رأسا على عقب؟! كم عليّ أن أحفظ من الأسرار حتى أحقن نفسي بحقنة من عدم الاكتراث؟! لكن سر صبري مقيت وجبروت عبد القادر كفر، و أنا بينهما كعفريت يرقص على جمرات..فكيف لي أن أتخير أفضلهما لعمتي صفية؟ أي نوع من الرجال سأكون تبسل عليّ العذابات من لهيبها فأصبر؟، دون أن ألعن كل لحظة عرفت فيها أن الحياة عقرب يقرص من لم ينل منه و من نال… لكن السرداب الطويل الذي بدا دقيقا معتما أمامي قدر له أن يشرق على أرض لم أرها و لم أحلم بها من قبل، كانت رؤية فريد.. عمي الذي غيرت غربته في المدينة معالمه و أخذت من سحنته الشرقية ما أخذت حتى بدا غريبا قلبا وقالبا، بملابسه، بحذائه ذي المربعات البيضاء و السوداء، بصدريته التي يضع بها ساعته الفضية، بقصة شعره، شاربه الممحو إلا من برادة الحديد، بكل ما فيه كان غريبا، حتى بمخارجه للحروف فلم تكن ثقيلة بل خفيفة تتهادى لتطرق كياني كله، كان هزة لمرة واحدة، و كان زفرة للريح و مضت، لكنها كانت تحملني بين يديه، لا أدري لما اختارني دون أبناء عمومتي، دون أشقائي، دون أناس القرية، دون الإنس و الجن، اختارني و مضى بي إلى غربته، عندما حملتني سفينة نوح لأعرف أن في الحياة غير قريتنا و أسرارها، عند ضفاف المدينة البعيدة بت لا أعرف نفسي، لم أعرف حينذاك أن الملابس قد تغير البشر، رغم أن ذاتها السحنة السمراء و العينان الواسعتان و ذاته القوام الممشوق، ذاتها الخصلة السوداء، كله ذاته ما تغير، لكني بداخلي قد تغيرت صرت غير ما كنت، لقد كبرت فجأة يا جين؛ ربما تلكم السنون التي أفقدتنا الإحساس بأنفسنا هي السبب! لقد هرمنا و نحن ما زلنا صغارا نتهجى معنى الحياة. لقد افتقدتك عزيزتي، لا أدري لمَّ أكتب إليك على أوراق قلبي، ليغدو كطوق نجاة وطوق ممات. القلب الذي قدر له أن يكشف صفحاته لك، و أن يطفو كأشرطة بالية من ذكريات، و لا أخفيك أنني أعيد النظر بحروف وجعي البارزة، و قد تكسرت على أمواج قد قصمت ظهري، أتدرين ربما لم أخبرك أني زنديق؟ كيف لي أن أسقط حقيقة هزيلة كهذه؟ قد تضحكين و أنت تنطقين هذه الكلمة بلكنتك الركيكة فتصبح القاف كافا فتعطيها مذاقا حلوا رغم مرارتها، قد لا تعرفين معناها و صدقيني أنا نفسي لم أعرفه و لم أستطع منع نفسي من الضحك مرارا و تكرارا، كلما تذكرت هشاشة الفكر لدى قومي. كنت يا حلوتي مارا كما كنت أفعل مسبقا، يقتلني حب الفضول لرؤية مقام المبروك الجديد الذي تحج إليه النساء و الولدان و الرجال من كل صوب، قد تعجبين لكثرة ما مررت وما رأيت! لا تعجبي فأنا مثل الآلاف من صغار قومي مشردين، نسرق من حلاوة الأرض و قسوتها ما يديم أودنا، و نصطبغ بسمرتها و نمضغ رمال الطريق، ثم نتفلها فنجدنا قد تعلمنا الكثير و أفنينا باللاشيء الكثير من طاقاتنا، ما زلت مارا كما تعلمين إلى حيث يعيش حسن المبروك، أتعلمين لم أدر لمَّ ألصقت البركة بالمجذوبين، و الدروشة بمن يكثرون الصلاة، وفق أي فقه أحكم؟ أهو فقه الجهلة أم التجهيل؟ لقد تعلمت مذ خرجت من قريتي يا عزيزتي الكثير و تعلمت أن الله واحد ليس له شريك، بينما ضاقت أنفس الناس عن إلههم الواحد، و لا أترك فرضا من صلاة أو صيام، لقد تعلمت يا جين عندما كبرت أكثر مما عُلمته صغيرا، لقد كان المبروك منشد الكثيرين يأتونه من كل فج عميق يتبركون بعتهه و جنونه، لا تسيئي فهمي، فلا السخرية مقصدي و لا الاستخفاف، إني أمقت من يضع عقله و ماله من أجل غرض دنيوي بل و أشفق عليه، حين أمسك بي رفيق صبي المبروك بقسوة لأنحني، أبيت، فضربني بيده على رأسي لأفعل فرفعت يده بغلظة وقلت غاضبا: “لست أبله مثلك لأنحني لمجنون…” و ما كدت أنطق بذلك حتى كان المبروك أول من رشقني بقذائف من السباب، الذي طال كل نساء قومي و أتبعها بكلمات لم أفهمها، لكني أدركت أنها أقذع ما سمعت أذناي فرشقته بالسباب الذي كنت أسمعه من الكبار: “يا ابن الق…” و كلت بيدي ما استطعت من حفنات التراب و الحجارة، و رشقته بها، و لذت بالفرار على جناح السرعة، و ما دريت كم من مجانين قريتي قد لحقني، لكني كنت واثقا أن أيا منهم لن يطالني و لو كنت في بئر مهجورة، و ما طالني سوى تلك الكلمة زنديق، التي سبقت اسمي. عزيزتي جين يموت الكثيرون منا و نحن لكنيتهم جاهلون، نعرفهم بالألقاب التي شربناها حلالا و هي حرام، فإن قدر لك السؤال عني في قريتي، فستعرفين لمَّ لا يعرفونني، رئيف بالنسبة إليهم قد مات ولي كذلك لأني ولدت من جديد، بلا زندقة أو غيرها. عزيزتي ينتابني شعور بالغثيان و بالقشعريرة ينتفض لها بدني، حين أمسك بالفرشاة لأصبغ تاريخي، فأبعثر الأوراق أمامي بيضاء كما هي دون سطور، لمَّ علي أن أخبرك بكل أسراري و تلك الجنح التي عرفت بها صغيرا خلاف ما أنا عليه ؟ و قد نبتت لي لحية و شاربان… أعترف أن لعمي الفضل الكبير في نفض الغبار عني، و أقسمت أمام نفسي أن أرد له الدين بأن لا أعرف له سرا، و لكني فشلت أمام أول امتحان لي، بعد سنوات طويلة قد عرفتك فيها و أنت تعملين في مقهى و تكملين دراستك، كيف كان ذلك؟ نعم، أعرف أنك تضحكين؛ لقد سكبت فنجانا من القهوة على قميصي فلسعت قلبي و جسدي بضربة واحدة، ربما لم يكن خطأك لقد اعتذرت و اعتذرت و أنا أتلوى من الألم، لكنه ألم من نوع آخر، لقد فقدت حينها اتزاني يا حلوتي و وقعت أسيرك؛ نار الحب تلظى و صرخة المحب تحي من في الأرض جميعا، بل تلك الطاقة الغريزية التي تنشب أظفارها في شرايين ذاك القلب ليفور كالتنور، و يعتلي أدراجا سماوية فيصبح من النبلاء، و أنا بحبك يا حسنائي أنبل خلق الله و من وصلت إليه ذرية آدم، أذكر أنني سألتك لمَّ أجنبية مثلك في بلادي؟ نبست ضحكتك عن أجمل ثغر أخفى وراءه عنقودا من اللآلئ. قلت: أنك تعيشين مع جدتك امتثالا لرغبة والديك في أن تتعلمي لغتك الأم و تتعلمي دينك. فاتخذت عملك في المقهى وسيلة لك لتتعلمي كل ما خفي عنك في الكتب، و عرفنا الحب معا، و صرنا واحدا، و ما أخفيك قلقي، نعم، ذلك الشعور الذي لا يفارقني و يكاد يقضي على ما تبقى من عقلي و مخاوفي من فراقك. كنت يا عزيزتي قد عرفت سر عمي الدفين، لقد رأيته و هو يجهز نفسه لشيء ما، لم أشغل بالي كثيرا بادئ الأمر، لكن الأمور كما تعلمين لا تبقى على علاتها بل تتعقد و تتعقد، فلا تترك طريقا إلا و قد سدته، لم أكن أبالي حينما كان يزوره صحبه في سوقه للمواد التموينية، و كما تعلمين فأنا أعمل محاسبا هناك، كان يمكن للأمر أن يمضي دون أن يثير شكوكي لولا تلك اللحى و ذلك الزي الذي كانوا يرتدون، و يمكن لهذا أيضا أن يمضي بسلام، لولا تلك الأدعية التي كان يتلوها في جوف الليل و بكاءه الذي تقشعر له الأبدان، وما كنت لأكترث مع هذا كله كنت سأقول: “شأنه مع الله” و لكني عندما رأيت على شاشات التلفزة تلك التفجيرات و أشلاء الأطفال و الثكالى و الأبرياء يقضون في بحر من الدماء لخطيئة لم يرتكبوها، صارت الأشرطة تنزلق إلى ذاكرتي، تلك الحقيبة الجلدية السوداء التي كان يحملها أحد الملتحين، و مضى دونها و التي صارت بحوزة عمي و ما فيها من أسرار، ساعات و هو مغلق نفسه و بابه؛ ما عاد كما كان، ذا الوجه الأمرد و تصفيفة الشعر؛ لقد تغير لقد استحال إلى عضاءة باحثة عن نار لتلتهمها ثم تنفثها من جديد؛ نفضت الأفكار من رأسي، لكنها عادت لتطفو من جديد، كل ما مر بي وعرفته من أسرار أدرت له ظهري و اكتفيت بكوني الشاهد الصامت، لم أقدم لأحد منهم دليل إدانته أو حتى دليل براءته.. فقط ببساطة أدرت ظهري للجميع. أرأيت كيف أسوي أمور حياتي؟ أدير لها ظهري و حسب، و ألعن الأقدار التي مرجتها إلي و دنت دوني و ما أردت، لكني اليوم أمام مئات سيموتون أمام انتحاري متطرف أو إرهابي مجرم و إن كان للأسف عمي، لقد كسرت حروفي ثانية و غدوت كالأبله الذي يمسك بقشة و يطفئ أعواد الثقاب بنظره، لقد احترقت كل آمالي بأن أصنع من نفسي تاريخا و أتمسك بحاضر محاصر، لن أستطيع أن أرسل أي من كلماتي المبعثرة بل علي لزاما إحراقها، و كل أدلة إدانتي بأني مسرف بهتك الأسرار، سأعيدها على مسامعك يا عزيزتي، أني أحبك و ما أحببت امرأة غيرك، و ما عرفت أن للعمر أطوارا لها قداستها إلا معك.. جين، سأودعك إلى حيث لن تريني بعد اليوم، لا أدري أين سأذهب وإلى أي جبل سآوي ليعصمني من الطوفان، صدقيني إنني خائف مهتز متوتر ترتعد أوصالي.. يحترق قلبي ثم تبترد مفاصلي و أرتجف و ما يدعني الجنون لحظة إشفاق، لأرسو إلى شطآن آمنة بلا أسرار.. ها أنا أمضي أسابق عقارب الموت إلى أقرب مركز أمني لاهثا: “أن هناك انتحاري إرهابي.” و أسلمهم إياه متلبسا في العنوان كذا في الشقة السابعة من الطابق الخامس، أول باب على اليمين له حذوة حصان مكسورة، و أتحلل بعد ذلك من إحرامي. و لا أدري إن كنت سألجأ إلى سجن ما أم تسجنني الحياة؟ مزقيني يا حلوتي كورقة خريف بالية، و امضي في طريقك فأنا بالكاد أحبو من وجع عظامي.

كلمات دليلية
رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.