إلى الحقائق البنائية يسعى البحث في الأدب، بما هي تشكل المنطق الذي يفرز لنا منهاج التعامل مع هذه الظواهر الأدبية. ومنه فالحكي يخيط كل منتجات الإنسانية منذ الأزل. فـ”الإلياذة والأوديسة” لهومر، مثلا، عبارة عن حكايات نظمت شعرا. فالتأصيل، هنا، لابد من أن يعود إلى الامتداد التاريخي للمسألة الأدبية؛ بغية التحكم في المؤشرات المتغيرة داخل الصيرورة الأجناسية. فكما فعل خورخي لويس بورخيس عندما استنطق التاريخ من أجل إظهار الإبدالات في سفريات السندباد البحري. ومنه تفرض السيرة الذاتية نفسها بإلحاح، على اعتبارها جنسا أدبيا مائزا، تواكب التطورات المجتمعية، التي مهدت، في مستهل بداية القرن العشرين، لهذا الجنس الأدبي. فضلا عن ظهور سير وتراجم في الأدب الغربي، بما هي محطات يتأمل فيها الكاتب والمترجم مسار حياته الاجتماعية والأدبية؛ وبذلك يدخل الكاتب حياته إلى عالم التخييل، باعتبارها بؤرة الحكمة والمرجعية.
إن الأدب الغربي كان سباقا إلى هذا الجنس الأدبي، وكان مسار تطوره واضحا بخلاف السيرة الذاتية في الأدب العربي حيث اكتنفها بعض الغموض، إلا أن الدكتور إحسان عباس بحث في التراث العربي عن جذور السيرة، واستطاع أن يحدد الإطار العام الذي يؤطر الحكي من داخلها.
يؤكد عباس في كتابه “فن السيرة” أن الإحساس بالتاريخ هو تأكيد مدى أهميته في بناء وعي نظري جديد للأدب، ومن ثم فإن ما كان يقوم به اليونانيون من وضع تماثيل لأبطالهم يندرج في هذا الإطار العام، أو ما كان يفعله المصريون من تحنيط موتاهم هو إحساس عميق، أيضا، بقيمة التاريخ والزمن، أو هو تخليد لهذه الشخصية أو لتلك. إن هذا التفاعل الموجود بين التاريخ والسيرة بمختلف أنواعها يؤكده إحسان عباس في كتابه “فن السيرة” أنه لا يمكننا الحديث عن السيرة الذاتية بمعزل عن التاريخ، بما هومعطف يغلف الأحداث ويضعها في إطارها الحقيقي.
كانت الانطلاقات الأولى لهذا الفن تنحو نحو معانقة التاريخ، وهو إحساس بمدى أهميته بالدرجة الأساس، فالتاريخ لا يصنعه الأفراد، بل الجماعات؛ لأن منطق القبيلة والعشيرة هو الذي يسيطر على الرؤية الإبداعية في تاريخ الأدب العربي. وبالتالي لا وجود لشيء اسمه التطور أو الإحساس بقيمة الزمن، فالسيرة في الأدب كانت عبارة عن أقوال مأثورة وأخبار وحروب، لا نعثر فيها عن مفهوم الوحدة الزمنية، أو الوحدة المصيرية والبنائية للإبداع الأدبي. تمحي هذه القيم وغيرها عندما يسيطر، مثلا، رجال الدين في الكنيسة على هذا الفن الذي بدأ يعيش مخاضا حقيقيا وعسيرا، وولادة قيصرية لم تظهر بعد أهم سماتها المهيمنة، فاستأثر بها رجال الدين والزهاد والمتصوفة من العامة؛ فأبرزوا فيها كرامات القديسين وخوارق أعمالهم، وفيه تغييب شبه تام للفرد ومواقف السيرة من الحياة.
ومع عصر النهضة بزغت الفردية في حدودها القصوى، فانفتحت السيرة الذاتية على مختلف الأجناس الأدبية وفي مقدمتها المسرح، حيث اقتبست منه الحوار الفني الذي ينحو نحو التطور والنمو في شكل دائري، ومن حيث إن الفن المسرحي مجتزأ من سيرورة حياتية للأفراد، فإن السيرة الذاتية سارت في هذا المنحى نفسه.
هذا المنعطف الخطير في تاريخ السيرة الذاتية دشنه الدكتور سامويل جونسون ورفيقه بوزول في الأدب الانكليزي، حيث عرف هذا الأخير بكاتب سيرة جونسون، وعن طريق رفيقه ظل يعيش حيوات متعددة في تاريخ الأدب الانكليزي. أما الشاعر كولي فقد كتب سيرته الدكتور سبرات، وفيها تفنن وأبدع الخيال الخصيب، فجنح إلى الأخلاق، كي يعبر عن مدى قوة الأدب في الخلق والإبداع.
ومع ليتون ستراتشي دخلت السيرة عالم الاحترافية الأكاديمية تحت يافطة النقد الأدبي، فبدأت تمتح من علوم مجاورة للأدب الإنساني؛ متحت من علم النفس والبيولوجية والباتولوجية والأنتروبولوجية، وانفتحت على تحليلات سيغموند فرويد ودراسة النواحي النفسية لشخصيات السيرة الذاتية، والشذوذ الجنسي الذي عرف به كل من بليك وإدجار ألان بو وتابعت الخطى نحو الإنتاجات القصصية، حيث أصبحت السيرة الذاتية عبارة عن مجموعة من التجارب الحياتية اليومية، وبهذه الخصوصيات الفنية عرفت تجربة أندري موروا.
ففي الأدب العربي تباينت الآراء واختلفت الرؤية حول السيرة الذاتية، فسارت في ظل السيرة الغربية، بما هي انفتاح على الجوانب النفسية والاجتماعية لأبطالها، غير أن النقد الأدبي لعب دورا مائزا في بناء رؤية حداثية للسيرة الذاتية؛ فكانت العبقريات للعقاد “محمد، الصديق وعمر” فاتحة هذا التوجه الجديد في الأدب السيري. و”جبران” لميخائيل نعيمة كانت كلها تجارب عاشها الكاتب رفقة صديقه من خلال الرابطة القلمية وأدب المهجر، فرمى نعيمة صديقه بنقائص خلقية أساءت لصديقه، إلا أن هذه السير قوبلت بالرفض من قبل نقاد الأدب؛ لأن هذه العبقريات، التي اختارها العقاد، لا تحتاج إلى هذه الالتفاتة المتواضعة شكلا وبناء؛ فمحمد هو صديق وأب وزوج ورئيس دولة معروف عند العامة والخاصة. غير أن عمل العقاد، بالرغم من ذلك، أغنى خزانة تجارب السير الذاتية في الأدب العربي. فهي ـ أي العبقريات ـ حسب إحسان عباس لم تكن سيرا بالمعنى الحديث للسيرة، وإنما هي عبارة عن مظاهر لشخصيات وأقوال ومواقف معروفة في التاريخ. ومن حيث أخفق العقاد في تناوله لسير العبقريات، نجح في سيرة سعد زغلول، والسبب في ذلك توفره على كل الوثائق الضرورية واطلاعه على المواقف التي تناولها في هذه السيرة، والعامل الحاسم والدافع الرائد، الذي له يد طولى وراء هذا التتويج هو، حسب معظم النقاد، مصاحبته لسعد زغلول، وفهمه لطبيعة الأحداث التي عاصرها العقاد وهذا من صميم النقد الأدبي.
يفرض مفهوم التطور نفسه، في أدب السيرة، بقوة، من حيث إنه يبرز امتداد الذات في الزمان والمكان. ولا ضير أن نشير، في هذا الصدد، إلى أبي حيان التوحيدي، عند إحسان عباس، الذي كان يجالس المتصوفة في دمشق، ودارت به الدوائر إلى أن جالس الفلاسفة في بغداد. كما ان أبو حيان التوحيدي كما المعتمد بن عباد ملك إشبيلية، عندما تكالبت عليه إمارات الأندلس وسلطة المرابطين، واقتيد أسيرا إلى سجن أغمات في مراكش عقب سقوط الدولة الأموية، فلم تنفعه حنكته السياسية ولا دهاءه الفكري، حيث دون، حسب أحمد بدوي، سيرته الذاتية شعرا، حينما استسلم للقضاء قائلا لزوجته اعتماد الرميكية:
قالت: لقد هنا هنا مولاي، أين جاهنا
قلت لها: إلى هنا صيرنا إلهـــــــــنا
وفي احترامنا المشروط بالتاريخانية المشروطة بالنقد الأدبي، في تناول موضوع السيرة الذاتية، لا بد من أن نعرج على سير دهاقنة الفكر العربي، الذين بنوه بالأسمنت المسلح، وفي مقدمة هؤلاء نجد ابن خلدون في تونس ولسان الدين بن الخطيب في المغرب. فابن خلدون، كما هو معروف، استكمل دراسته في المغرب، وكان من المقربين إلى السلطان أبي عنان المريني في القرن السابع الهجري، فاستقدم إلى فاس وأصبح عضوا في المجلس العلمي للمدينة. وإثر ذلك بدأ يدبر الدسائس لخصومه من الفقهاء والعلماء، طمعا في توليه وزارة من الوزارات، وسجن على إثر ذلك، فأدرك الموت أبا عنان وابن خلدون في السجن، فخلف لنا كتابا ضخما يعرفه الكل: “كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ـ ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر” وقسم هذا الكتاب الضخم إلى ثلاثة أقسام:
• المقدمة.
• قسم مخصص للتاريخ.
• قسم خاص بسيرة ابن خلدون.
وفي هذه السيرة برهن ابن خلدون على الفطنة والذكاء، واستحدث علما جديدا سمي فيما بعد بعلم الاجتماع، بما هو استقاه من البيئة المغربية.
أما سيرة لسان الدين بن الخطيب فهو طبيب وعالم وفيلسوف ومؤرخ ووزير بني الأحمر في مملكة غرناطة، وأوفده السلطان يوسف بن الأحمر على أبي عنان المريني لتقديم تعازيه إثر وفاة أبيه أبي الحسن. وعن طريق الطبيب، لسان الدين، تعرف المغرب على بلاد الأندلس، وألف كتاب “معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار” وهو عبارة عن رحلات صغرى قام بها ابن الخطيب في المغرب؛ فزار كل من: فاس، مكناس، تازة، سلا، أغمات، مراكش….وفي هذه الالتفاتة، نلاحظ كيف أن المكان يرافق السيرة، بل يمكن اعتباره معطفا يغلف مختلف أطوار السير. وبالتالي فالسيرة الذاتية ما هي إلا سيرة للمكان، الذي يرافق الشخصية الرئيسية.
في ظل هذه المعايير المتداخلة، يبقى الأدب واحة ظليلة لمختلف الأجناس، التي تنحت منه ـ أي من الأدب ـ عريشا تلجأ إليه حينما يشتد وطيس المنافسة بين هذه الأجناس عن أيها أقرب إلى التعبير عن الخيال والمخيال الأدبي. فالسيرة، كما سبق، قسيمة الإحساس والشعور بالزمن الذي يغير البشر والحجر، بل يدفع نحو التأمل في الذات وما لحقها من تبدلات وإبدالات، قد طالت الظاهر والباطن؛ لتجد مكانا آمنا تستريح فيه، وتخلد بفعل الكتابة والإبداع.
السيرة الذاتية والنقد الأدبي
رابط مختصر
المصدر : http://zajelnews.net/?p=104967