انطلق سباق «التحوّل الذكي» في الخدمات، داخل الدولة، بقرار حكومي، وهو سباق مستمر، ولا نهاية له، بفضل الثورة الرقمية التي يشهدها العالم، وما يصاحبها من تطورات تقنية متسارعة. وبنظرة إلى الوراء، وتحديداً إلى ما قبل عام 2012، تتبين المسافة التي قطعها هذا السباق، وما خلقه من تحديات تعيشها الحكومات والشعوب، فقد كان إنجاز المعاملة الواحدة، في أي جهة حكومية، يستغرق ساعات عدة، تسبقها مسافات يقطعها المراجعون من منازلهم إلى مقر الجهة، ووقت يقضونه بحثاً عن موقف للمركبة. وقد يضطرون إلى تكرار الرحلة مرة أو مرتين، وربما أكثر، نتيجة عدم اكتمال الأوراق، أو وجود خطأ ما في البيانات.
وفي 27 فبراير 2012، كان القرار التاريخي لصاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، عندما وجّه سموّه الوزارات والهيئات الاتحادية كافة، بالانتهاء من تقديم خدمات إلكترونية شاملة للجمهور، في مدة أقصاها عامان. وفي 22 من مايو 2013، أعلن سموّه إطلاق «الحكومة الذكية» والبدء فوراً بالعمل على تنفيذ الخطوات المطلوبة لتحويل خدمات «الحكومة الإلكترونية» إلى «حكومة ذكية»، أي حكومة تمكّن أفراد المجتمع من الاستفادة من خدماتها عبر الهواتف الذكية طوال الـ24 ساعة، وخلال سبعة أيام في الأسبوع، وعلى مدار السنة، على أن يتم التحول الكامل للحكومة الذكية خلال فترة زمنية مدتها عامان.
ورغم النجاح الكبير في تنفيذ التحول الذكي، لاتزال هناك صعوبات يواجهها المتعاملون، في ظل تعدد التطبيقات الذكية للجهات الحكومية معاً، ولكل جهة على حدة، فضلاً عن التداخل في الخدمات بين التطبيقات الذكية الاتحادية والمحلية.
نتناول في ملف «التحوّل الذكي.. رحلة عبور التحديات»، تجربة المتعاملين مع «الحكومة الذكية»، في حلقتين، وتستطلع آراء الجهات المعنية، حول سبل تجاوز التحديات التي يواجهها المراجعون، والإجراءات التي اتّخذت في هذا الشأن.
أسهم التحوّل الذكي وإطلاق العديد من التطبيقات الذكية في تغيير ملامح المشهد كلياً داخل كثير من مراكز الخدمة الحكومية، فاختفت طوابير المراجعين والازدحام والانتظار الطويل، وبات المتعامل قادراً على إنجاز معاملاته المختلفة، عبر هاتفه، دون عناء التوجه إلى المركز أو الدائرة الحكومية.
ولا توجد إحصائية دقيقة لعدد التطبيقات الحكومية، التي أُطلقت منذ إعلان التحول الذكي، لكن التقديرات تشير إلى وجود آلاف منها تغطي نحو 4000 خدمة اتحادية ومحلية، فيما يقدّر عدد المعاملات المنجزة عبر التطبيقات الحكومية سنوياً بالملايين. وعلى سبيل المثال، بلغ عدد المعاملات المنجزة عبر تطبيق «دبي الآن» 8.6 ملايين معاملة، حتى نهاية سبتمبر الماضي.
وأكّد متعاملون مع دوائر حكومية أن التحوّل الذكي في الخدمات الحكومية، جعل جودة الحياة في الإمارات أكثر جاذبية وسعادة، ووفر عليهم كثيراً من الوقت والجهد في إنجاز معاملاتهم، لكنهم أثاروا تساؤلات عدة بشأن مجموعة من التحديات، ومنها: كثرة التطبيقات وما تسببه لهم من تشتت، وعدم قدرتهم على التعامل مع الكم الكبير منها، مع صعوبة تنزيلها جميعاً على هواتفهم في ظل السعة المحدودة لذاكرة الهواتف، فضلاً عن تداخل الخدمات بين التطبيقات الاتحادية والمحلية، وتعدد أنظمة الدخول إليها.
وقال المواطن مسعد الحارثي إنه كان يقطع مسافة طويلة بسيارته من منزله إلى داخل مدينة أبوظبي، لإنجاز معاملة حكومية، حاملاً جميع أوراقه الأصلية وصوراً منها، في حقيبة. أما حالياً، فيقول: «لقد أصبح الأمر أكثر سهولة، إذ يمكنني إنجاز المعاملات من خلال هاتفي».
أما المواطن محمد البريكي، فرأى أن «هناك تداخلاً ملحوظاً في الخدمات الحكومية في كثير من التطبيقات، فضلاً عن متطلبات الولوج المتعدد إليها».
وأكد المواطن فيصل أحمد، أن «التحوّل الذكي أفرز مئات من التطبيقات الذكية التي تقدم خدمات حكومية محلية واتحادية، ومن الصعوبة تنزيلها جميعاً على الهاتف، لكنه يضطر إلى التعامل مع عدد مختار من التطبيقات، خصوصاً تلك التي يحتاج إليها بصفة دورية، مثل تطبيقي الهيئة الاتحادية للهوية والجنسية، ووزارة الداخلية»، مقترحاً «توحيد ودمج هذه التطبيقات تحت منصة حكومية موحدة، توفيراً للجهد والمال، ومنعاً لتشتيت المتعاملين».
وأشار إلى تحديات أخرى، منها تعطّل بعض التطبيقات لفترة من الوقت، ما يوقع المستخدم في حيرة في كيفية إنجاز مهمته، خصوصاً أن الدائرة الحكومية، مطوّرة التطبيق، توقفت عن استقبال المراجعين»، مقترحاً «توفير قنوات خدمة بديلة في حال تعطّل التطبيقات، بما لا يعطّل مصالح الجمهور».
وذكر محمد عثمان أن «بعض الجهات الحكومية لم تكتفِ بتطبيق ذكي واحد، بل طوّرت أكثر من تطبيق لخدماتها، ومنها البلديات والدوائر الاقتصادية»، متسائلاً: «لماذا لا توحد التطبيقات تحت منصة واحدة؟».
وتابع أن «هناك إشكالية أخرى متعلقة باللغة، إذ تكتفي بعض التطبيقات باستخدام اللغة الإنجليزية أو العربية، في حين أن هناك شريحة كبيرة من الجاليات الآسيوية لا تجيد اللغتين، وتحتاج إلى تطبيقات مدعومة بلغاتها».
وقال صبري عبدالمنعم إن الإشكالية الرئيسة التي تواجهه مع التطبيقات الذكية، هي تأخر إنجاز بعض المعاملات، لاسيما إذا كانت تحتاج إلى موافقات، فإذا قدّمها بعد انتهاء الدوام الرسمي، اضطر للانتظار حتى اليوم الثاني للحصول على ردّ، وهو ما يخالف مفهوم الخدمة الذكية التي تتطلب توافرها 24 ساعة.
الإطلاق غير المنظم
أفاد خبير أمن المعلومات في شركة «كاسبرسكي» المتخصصة في أمن الحواسيب والحلول والتطبيقات، رامي الدماطي، بأن الحكومات الذكية حول العالم، قد تواجه مجموعة من التحديات التقنية والتنظيمية والإجرائية، بعد التحول إلى الخدمات الذكية، ومنها تحديات تطوير خدمات ذكية متكاملة ذات جودة عالية، تحظى برضا وثقة المتعاملين، وتتميز بالسهولة والسرعة، وبأنها متاحة على مدار الـ24 ساعة دونما انقطاع.
وأضاف أن الإطلاق غير المنظم للتطبيقات الذكية الحكومية وتداخل الخدمات في ما بينها، تحديات رئيسة تؤكد الحاجة إلى تبنّي سياسة توحيد التطبيقات الذكية لإدارة البرامج والتطبيقات الذكية، بما يحقق الاستفادة القصوى منها، لأن وجود أكثر من تطبيق ذكي من شأنه أن يوقع المتعامل في حيرة، ويشتت ذهنه، ما يمنعه من تحديد التطبيق الذي يتعين عليه استخدامه لإنجاز معاملته.
واقترح إعادة هيكلة التطبيقات، وإدراجها تحت تطبيق أو بوابة واحدة، بما يسهل على المتعاملين الوصول إلى الخدمات كافة، من دون تشتت.
وشرح الدماطي أن «المستخدم يضطر إلى وضع بياناته الشخصية في كل تطبيق يحمّله على هاتفه، الأمر الذي يجعلها عرضة للاختراق. وهو أمر يصعب حدوثه في حال كانت هناك بوابة موحدة».
ونبه إلى أن بعض المستخدمين يلجأون، من باب التذكر السريع، إلى تكرار اسم المستخدم وكلمة السر في جميع التطبيقات، ما يجعلهم عرضة للاختراق السهل والاستيلاء على بياناتهم.
الفجوة الرقمية..والتفاوت المعرفي
قال الخبير ومستشار في التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي وتقنيات الثورة الصناعية الرابعة، فيصل الشمري، إن الفجوة الرقمية تحدٍّ له أبعاد عدة، ليس فقط بين الدول والأمم، وإنما قد يكون في دولة واحدة، أو حتى بين قطاعات مختلفة في مؤسسة معينة، مثل تفاوت حداثة التقنيات المطبقة وقدمها نتيجة تفاوت معرفي أو مالي، وهو الأمر الذي يحتم على الجهات المعنية بالتحول الذكي، رفع مستوى التنسيق في اعتماد الأنظمة والتقنيات، وتوحيد المعايير ودعم التوجه للتقنيات المفتوحة المصدر، لترشيد النفقات وتعزيز البحث والتطوير. وهنا يأتي دور جامعاتنا الوطنية ومراكز البحث العلمي والشركات الوطنية العملاقة، الحكومية وشبه الحكومية، وأيضاً صندوق الاتصالات، لإطلاق مبادرات حقيقية لهذه الغاية.
واقترح توحيد معايير الخدمات وآليات قياس مؤشرات الممكنات الحكومية للحكومة الذكية والمعيار الرابع في الجيل الرابع للتميز المؤسسي (الحكومة الذكية)، وبرمجة آليات القياس وتزامن توقيت قياسها السنوي، ووضع التحديات كفرص تحسين مشتركة على الجهات كافة، محلياً واتحادياً، لمعالجتها ضمن تقارير التميز أو تقارير مؤشرات الممكنات.
وأشار إلى أن «وجود ما يزيد على 200 جنسية على أرض الوطن، يعكس أهمية وضع معايير تدعم سهولة استخدام قنوات الخدمات الذكية، من خلال جعلها متعددة اللغات، ومثال ذلك تجربة وزارة الداخلية التي أطلقت تطبيقها الذكي عام 2016 بـ16 لغة».
وأكد أهمية مواءمة خطط التحول الرقمية المحلية والاتحادية، خصوصاً في ظل مؤشرات التنافسية العالمية والمأمول من تحقيق (الرقم 1) عالمياً في هذا المجال، عبر تعزيز رحلات المتعاملين، وتكثيف المسرعات الحكومية التي تحقق الطموحات وتبني الخدمات المشتركة (اتحادي اتحادي أو اتحادي محلي)، وإعادة هندسة الإجراءات بما يفوق توقعات المتعاملين.
الوصول إلى المركز الأول
اعتبر رئيس وحدة التطورات التكنولوجية في مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة في أبوظبي، الدكتور إيهاب خليفة، أن التحدي الأبرز عالمياً في تقديم الخدمات الحكومية الذكية يتعلق بالتوعية الأمنية، فزيادة الاعتماد على التكنولوجيا تتطلب أن يكون هناك قدر عالٍ من الوعي لدى الأفراد للتعامل معها، حتى لا يقعوا ضحية للقراصنة الإلكترونيين، سواء جرائم انتحال الهوية من خلال سرقة المعلومات الرئيسة، مثل رقم الهوية واسم الدخول وكلمة المرور، ومن ثم التلاعب بالبيانات الرقمية للعميل، كخدمات تقديم القروض والكريدت كارد وغيرهما، أو جرائم الابتزاز، من خلال سرقة أو تشفير المعلومات الموجودة على أجهزة الكمبيوتر أو الهاتف، وابتزاز الضحية لدفع فدية للحصول عليها.
وأشار إلى أن «الوصول إلى المركز الأول يحتاج إلى بناء جيل من الباحثين والمبرمجين الموهوبين القادرين على تطوير وابتكار خدمات وتقنيات ذكية جديدة، واكتشاف التهديدات السيبرانية التي تواجه تقديم هذه الخدمات إلكترونياً، في أسرع وقت ممكن».
نسخ واجهات التطبيقات الحكومية
نبّه رامي الدماطي إلى أن «هناك مخترقين يطورون تطبيقات احتيالية، عبر نسخ واجهات التطبيقات الحكومية، وإظهارها بصورة طبق الأصل من التطبيقات الحقيقية بشكل يخدع بعض المتعاملين ويدفعهم لتحميلها على هواتفهم، وتزويدها ببياناتهم الشخصية والمصرفية، ما قد يعرّضهم لعمليات احتيال مالي».
وأكد أن «تبنّي بوابة موحدة في تقديم الخدمات الحكومية الذكية يوفر أعباء مالية وعملياتية على الحكومات، ويقلل فجوة التواصل بين المستخدمين والجهات الحكومية، فضلاً عن أهميتها في سد الثغرات الأمنية في التطبيقات المتفرقة التي يمكن ولوجها من المخترقين».
ولفت إلى أن «هناك تحديات شائعة أخرى تصاحب عملية التحول الذكي للخدمات الحكومية، ومنها تعطل التطبيقات الذكية لأسباب مختلفة، ما يوقع المستخدمين في حالة من القلق والتوتر».
وتابع «مما لاشك فيه أن حياة الأفراد أصبحت أكثر سهولة مع التحول الذكي في الخدمات الحكومية، مقارنة بما كانت عليها في السابق، لكن من الأهمية التغلب على هذه التحديات، والعمل على تسهيل وصول هذه الخدمات من دون تعقيد، وتوعية الأفراد وتثقيفهم في كيفية التعامل مع هذه الخدمات».
تطبيقات متداخلة
وجود مئات من التطبيقات الحكومية، بعضها يتشارك في بعض الخدمات المقدمة، مثل تطبيقي الهيئة الاتحادية للهوية والجنسية والإدارة العامة للجنسية والإقامة، في ما تقدمه من معاملات الإقامة، وكذلك الحال بالنسبة إلى تطبيقات وزارة الداخلية وشرطتي أبوظبي ودبي، في ما تقدمه من خدمات شرطية وسداد المخالفات المرورية.
كما رصدت وجود تطبيقات حكومية عدة للإبلاغ عن الجرائم، مثل حارس المدينة، وإي كرايم، ومجتمعي آمن. إضافة إلى وجود خمسة تطبيقات لحجز مواقف السيارات في الدولة، وتعدد التطبيقات المتداخلة التي تقدم خدمات لأصحاب الهمم، وتطبيقات تحمل أسماء قديمة لجهات حكومية تم تغيير أسمائها على أرض الواقع، وأخرى توقفت عن العمل، فضلاً عن تطبيقات عدة للسياحة وتحديد الوجهات وغيرها، الأمر الذي خلق تشتتاً عند المتعاملين في اختيار التطبيق المناسب من بين هذه التطبيقات.