منذ حوالي عشرين عاما ظهر في الساحة الأدبية إنتاج أدبي يقرأ على شاشة الكمبيوتر، ومن خصائصه أنه يقوم بدمج الوسائط الإلكترونية المتعددة؛ نصية وصوتية وصورية وحركية في الكتابة على فضاء يسمح للقارئ بالتحكم فيه. وقد سمي بالأدب الإلكتروني أو الأدب الرقمي، أو الأدب التفاعلي.
والأدب الرقمي نوع جديد من الكتابة الأدبية يوظف المعلومات وجهاز الكمبيوتر، وتعود بداياته إلى أواخر الخمسيناتمن القرن الماضي، حيث نشأ بالتزامن في ألمانيا وفرنسا وكندا، لكن بدايته الحقيقية لم تتم إلا أواسط الثمانينات على إثر انتشار استعمال أجهزة الكمبيوتر الشخصية، والقفزة التي عرفتها صناعة الوسائط المتعددة.
إن الانخراط في هذا الأدب الجديد مطلب حضاري بامتياز، وليس نزوة أو موضة. والمسألة محسومة معرفيا وثقافيا وأنتروبولوجيا، فبالعودة إلى مختلف الأشكال التعبيرية القديمة والحديثة، سنلاحظ أنها وحدها التي عبرت عن قدرتها على احتضان معنى وجود الإنسان في كل مرحلة تاريخية.
فمفاهيم الأدب الرقمي لا تزال ملتبسة بعض الشيء، ليس فقط في التجربة العربية، لكونها حديثة العهد وتحتاج إلى تأملات نقدية تدعم وضوحها الذي لا يعني بالضرورة ضبط المفاهيم بشكل قاطع، ولكن على الأقل خلق مجال نقدي موضوعي لبلورة المفاهيم التي تؤطره.
بدأ الأدب الرقمي يأخذ مساحته لدى القارئ والكاتب، إذ أن تصفح وسائل التواصل الاجتماعي والكتب الرقمية بات أسهل من القراءة التقليدية بالنسبة إلى البعض. ولكن هناك بعض السلبيات؛ أهمها صعوبة الحفاظ على حقوق الملكية الفكرية، ولا سيما أن وسائل التواصل تعتمد على النشر والنقل، كما أن الترويج عن طريق المشاركات والإعجابات يزيد من نسبة انتشار البعض على حساب الآخرين، حتى وإن قدّم إبداعا أقل جودة، وهو ما يؤثر على حركة الأدب.
يقدم الأدب الرقمي معايير جمالية جديدة وخصائص لم تكن متاحة من قبل في النص الورقي كخاصية تعدد المبدع، والتأليف الجماعي للنص الرقمي، وتعدد الروابط التي تؤدي بدورها إلى تعدد النصوص حسب اختيارات المتلقين، بعكس الأدب الورقي الذي تكون فيه البداية موحدة والنهايات محدودة، إضافة إلى صعوبة الحصول على الكتاب الورقي مقارنة بنظيره الرقمي الذي يسهل حمله وتحميله من خلال الكمبيوتر، لذلك فمن الطبيعي أن يعرف هذا الأدب في المستقبل القريب انتشارا واسعا ورواجا كبيرا في الأوساط الأدبية.
والأدب الرقمي هو أدب المستقبل، أدب جيل الأندرويد، والهواتف الذكية والألواح الرقمية، وتواجده لا يلغي تواجد الكتاب ولا القراءة الورقية، فهما يتعايشان معا جنبا إلى جنب دون أن تنفي خصوصية أحدهما الأخرى، لكن تنبغي الإشارة إلى أن القراءة حتى قبل الأدب الرقمي كانت تعرف عزوفا شديدا من طرف القراء لارتفاع ثمن الكتاب ومحدودية توزيعه أو سوء طباعته نظرا إلى ارتفاع ثمن تكلفة الورق، وقد يحل النشر الإلكتروني أزمة القراءة لأنه سيسهم في توفير الكتاب، حتى المحظور أو المغمور الذي لم يلاق حقه من الإشهار والتسويق ومن دون ثمن.
لكنه سيحدث تحولا في شكل القراءة التي ستبتعد عن التتابع لصالح قراءة اختيارية تصفحية لا تخضع سوى لرغبات القارئ واهتماماته، القارئ المبهور بكل جماليات العرض وبيسر البحث والإبحار والوصول إلى المعلومة.
وقد وصف أحد الأدباء الأدب الرقمي بـ”السكين” الذي يمكن استخدامه في أعمال نافعة أو قاتلة، فقد أعطى فرصة للمبدعين الحقيقيين لأن ينتشروا وينشروا نصوصهم ويكسروا احتكار الصحف والمجلات التي لا تنشر لأي من الأصوات الشعرية الجديدة.
ومن جهة أخرى فتح الباب على مصراعيه لمن هب ودب، لنشر نصوصه بأخطائها الكتابية والنحوية والفنية، ويضع اللقب الذي يريده ويتلقى تعليقات وإشارات إيجابية من خارج أصحاب الاختصاص.
ووصف الناقد المغربي محمد أسليم حالة الركود الإلكتروني التي يعيشها المشهد الثقافي العربي في عصر الثورة المعلوماتية بـ”الغفوة الإلكترونية”، وحاول تقييم الحضور العربي على الشبكة، موضحا صعوبة ذلك وانعدامه تقريبا لأسباب عديدة.
ونحن اليوم شئنا أم أبينا سنسير في اتجاه التقنية، وسيكون ذلك أكثر يسرا وطواعية مع الأجيال القادمة، ونحن اليوم مطالبون بأن نكتب بأدوات العصر وأن نعبر عن إنسان هذا العصر في كينونته التكنولوجية وفي عالمه الافتراضي.
الأدب الرقمي هو مستقبل الأدب، وهو دعامة أساسية للتحسيس بالكتاب الرقمي. ولا يمكن أن يعيقه أحد عن التقدم، كما أن الآراء التقليدية والنقدية التي تحاول تشويهه، لن تقف عائقا أمام هذا النوع؛ لأنه يمثل المستقبل.
إنه المستقبل القادم لا محالة…