تُشكِّل الأندلس واحدة من الحضارات الرفيعة التي أقامها العرب في تاريخنا الإسلامي المجيد، وإنّ دراسة الأدب الأندلسي لا تنسجم مع تقسيمات العصور، فالأندلس إقليم لا عصر من العصور
وإنّ الحضارة الإسلاميّة في الأندلس تكاد تستغرق معظم العصور القديمة، حوالي ثمانية قرون، أي منذ أن فتحتها الجيوش العربية المسلمة بقيادة “موسى بن نصير” و”طارق بن زياد” سنة (92هـ) إلى سقوط غرناطة، آخر معقل للعرب الأندلسيين هناك سنة (897هـ)، فكانت تتقابل بذلك شطرًا من الأدب الأموي والأدب العباسي والمملوكي وشطرًا من الأدب العثماني.
وسبب دراستها منفصلة يكمن فيما ظهر فيها من ملامح حضارية جعلتها بقعة متميزة عن البقع الإسلامية.
ولقد تأثّر أدباء الأندلس بأدباء المشرق، نتيجة تتلمذهم على أيدي الأدباء في المشرق أو النزوح من المشرق، وإن كان أدبهم تميّز بملامح خاصة نتيجة لطبيعة البيئة التي عاشوا فيها، ولذلك جاء أدبهم مصورًا لتلك الحياة أصدق تصوير.
وممّا تميّز به الأدب الأندلسي أنّه كان يُنطق باللغة العربية الصافية، وله طابع خاص في الخصائص لا سيما في الفنون الشعرية التي امتازت بالوصف ورثاء الممالك الزائلة والاستنجاد بالرسول صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة رضوان الله عليهم ونظم العلوم والفنون والشعر الفلسفي، كما امتازت معاني الشعر الأندلسي وأفكاره بالوضوح والبساطة والبُعد عن التعقيد والتلميح إلى الوقائع التاريخية ولا سيما في رثاء الممالك الزائلة، أمّا ألفاظه وعباراته فقد كانت واضحة وسهلة وفيها الرقة والعذوبة وتجنب الغريب من الألفاظ، واهتمّ بالصنعة اللفظية، وقد انتزع تصويره وخياله من البيئة الأندلسية الغنية بمظاهر الجمال الطبيعية وتزاحم الصور، أمّا بالنسبة للأوزان والقوافي فقد التزموا بوحدة الأوزان والقوافي بدايةً، ثم ابتدعوا أوزانًا جديدة لانتشار الغناء في مجالسهم ونوَّعوا في القوافي ومن ذلك الموشحات.
ومن الشعراء الأندلسيين الخالدين في ذاكرة الأدب الرفيع يظهر لنا: الشاعر الأندلسي الإمام الواعظ أبي إسحاق الألبيري، وفيما يأتي ترجمة مختصرة عنه ومختارات من شعره:-
أولاً: ترجمة مختصرة عنه:-
هو إبراهيم بن مسعود بن سعد التُجيبي الغرناطي الألبيري الأندلسي، ويُكنّى بـ (أبي إسحاق)، وأصله من أهل حصن العقاب، ولد عام 375هـ، الموافق عام 985م، وكان أديبًا معروفًا وشاعرًا مشهورًا من أهل غرناطة في الأندلس.
ولقد اخْتَلَفَ مع ملك غرناطة “باديس بن حبوس” وأنكر عليه اتخاذه وزيرًا من اليهود اسمه “إسماعيل بن نَغْزلَّة”، فنفاه الملك إلى البيرة، فألّف إبراهيم أبو إسحاق في منفاه قصيدة أدَّت إلى ثورة أهل صنهاجة على الوزير اليهودي فقتلوه، ومطلعها (ألا قل لصنهاجة أجمعين). وله أكثر من أربعين قصيدة، وغالب شعره يتناول الحكم والمواعظ.
تُوفي أبو إسحاق “رحمه الله” في عام 460هـ، الموافق عام 1068م.
ثانيًا: مختارات من شعره:-
من شعره قصيدته الفريدة والتي تُسمى بـ “منظومة الألبيري” أو “تائية الألبيري“ وهي من أهم متون الأدب في طلب العلم وفضله والحث عليه والعناية به، قالها في نصح شاعر شاب قد هجاه، يقال له أبو بكر فأغضى عن سبابه وشتمه بل وعفى عنه ووعَظَهُ موعظة بليغة، وقد حوت بدائع الحِكَم والوصايا التي يحتاجها طالب العلم من التزود والنهل من العلم والتخلّق بطيّب الأخلاق والفِعال، وقد اشتُهرت هذه القصيدة عند طلاب العلم، بسبب ورع صاحبها وعفوه عن المسيء، وتنازله عن حقه، والقصيدة من (115) بيت يقول في مطلعها:
تَفُتُّ فُـؤادَكَ الأَيّـامُ فَتّـا وَتَنحِتُ جِسمَكَ الساعاتُ نَحتا
وَتَدعوكَ المَنونُ دُعاءَ صِدقٍ أَلا يا صـاحِ أَنتَ أُريدُ أَنتـا
أَراكَ تُحِبُّ عرسًا ذاتَ خِدْرٍ أَبَتَّ طَـلاقَها الأَكـياسُ بَتّـا
تَنامُ الدَهرَ وَيحَكَ في غَطيطٍ بِهـا حَتّى إِذا مِـتَّ اِنتَبَهـنا
فَكَم ذا أَنتَ مَخدوعٌ وَحَتّـى مَتى لا تَرعَوي عَنها وَحَتّـى
أَبا بَكرٍ دَعَوتُكَ لَو أَجَبتـا إِلى ما فيهِ حَظُّـكَ إِن عَقَلتـا
إِلى عِلـمٍ تَكونُ بِه إِمامًـا مُطاعًـا إِن نَهَيتَ وَإِن أَمَرتـا
وَيَجْلو ما بِعَينِكَ مِن غِشاها وَيَهديـكَ الطـريق إِذا ضَلَلتـا
وَتَحمِلُ مِنهُ في ناديكَ تاجًا وَيَكسـوكَ الجَمـالَ إِذا عَريتـا
يَنـالُكَ نَفعُهُ ما دُمتَ حَيًّـا وَيَبقـى ذكـره لَكَ إِن ذَهَبتــا
ومن شعره أيضًا: كل امرئ فيما يدين يدان، يقول:
كـل امـرئ فيما يدين يـدان سبحان من لم يخل منه مكان
يـا عامر الدنيا ليسـكنها ومـا هـي بالتي يبقى بها سكـان
تفنى وتبقى الأرض بعدك مثلما يبقى المناخ وترحل الركبـان
أأسـر فـي الدنيا بكل زيـادة وزيـادتي فيها هي النقصان
أيضًا من شعره: لا قوة لي يا ربي فأنتصر، يقول:
لا قوة لي يا ربي فأنتصـر ولا براءة من ذنبي فأعتـذر
فإنْ تعاقب فأهل للعقاب وإنْ تغفر فعفوك مأمول ومنتظـر
إنّ العظيم إذا لم يعف مقتدرًا عن الفقير له فمن يعفو ويقتدر
ومن أعذب ما قاله في الندم على الذنب:
أتيتك راجيًـا يا ذا الجـلال ففرِّج ما ترى من سوء حالي
عصيتك سيِّدي وَيْلِي بجهـلي وعيب الذنب لم يخطر ببالي
لعمـري ليت أمي لم تلدنـي ولم أغضبك في ظلم الليالـي
فها أنـا عبدك العاصـي فقير إلى رحماك فاقبل لي سؤالـي
فإنْ عاقبت يـا ربي تعاقـب محـقًا بالعـذاب وبالنكــال
وإنْ تعف فعفـوك قد أرانـي لأفعالـي وأوزاري الثقال
د. سامي احريز
د. سامي احريز منذ 7 سنوات
مؤلِّف هذا المقال هو الدكتور سامي احريز
ولا أدري لماذا لم يتم الإشارة إلى اسمه؟!