أخفقت “ترويكا” الدولة العراقية، بقيادة “الرئاسات الثلاث”، في التوصل إلى “اتفاق سياسي”، يقدم تسوية تُثني الزعيم الشيعي مقتدى الصدر عن مواصلة محاصرة “المنطقة الخضراء” وسط بغداد، منتزعاً – بإخفاقها – توافقاً وطنياً نادراً في بلد تتنازعه صراعات معقدة، قومية وطائفية.
وانتزع مقتدى الصدر، الذي يواصل أنصاره الاعتصام في محيط “المنطقة الخضراء” لليوم الخامس على التوالي، ما يرقى إلى “توافق شعبي” بعد اطلاقه “انتفاضة إصلاحية” تطالب بـ “اجتثاث أسباب الفساد” المستشري في مفاصل الدولة العراقية، وفق سياسيين ومراقبين في العراق، استطلعتهم “اليوم” عبر الهاتف من العاصمة الأردنية عمان.
و”المشروع الإصلاحي”، الذي أطلقه الصدر في 13 فبراير الماضي، وأمهل فيه رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي 45 يوماً لتنفيذه، تضمن مطالبات أخفقت الرئاسات العراقية الثلاث، حتى الآن، في التوصل إلى تفاهم بشأنها، وكذلك فشلت في “ثني المعتصمين” عن محاصرة “المنطقة الخضراء”، التي تضم مقرات حكومية ودبلوماسية.
اجتماعات “الرئاسات”، التي تضم “رئيس الجمهورية” فؤاد معصوم و”رئيس الحكومة” حيدر العبادي و”رئيس البرلمان” سليم الجبوري، مع القوى والتكتلات العراقية لم تتوصل إلى “اتفاق سياسي”، وسعت لتورية ذلك بـ “تشكيل لجنتين”، تضم كل منهما 12 نائباً عراقياً من مختلف القوى السياسية.
وأوكلت “الرئاسات الثلاث” إلى كل من اللجنتين مهمة خاصة، اللجنة الأولى تتولى التشاور مع رئاسة الحكومة بشأن التوافق على “تعديل” أو “تغيير” حكومي، فيما اللجنة الثانية للاطلاع على مطالب الصدر، ومفاوضته لنزع فتيل الأزمة؛ وهو ما اعتبره قيادات في التيار الصدري “فشلاً ذريعاً”.
وعلّق رئيس الهيئة السياسية لـ “تيار الصدر” ضياء الأسدي على تشكيل اللجنة بالقول إن “المطالب الشعبية واضحة ومعروفة لمختلف القوى العراقية، ولا حاجة لنا بهذه اللجنة”.
ولم يستبعد الأسدي، في حديثه إلى “اليوم” من بغداد، أن يجتمع ممثلون عن التيار الصدري مع اللجنة، دون أن يؤكد ذلك، معتبراً أن “الأمر متروك لتطورات الساعات المقبلة”.
توافق
مشروع الصدر الإصلاحي، أو “انتفاضة الصدر”، يحظى بتوافق غالبية التيارات السياسية رغم أنه “يهدد مصالح الكتل المشاركة في الحكومة”، إذ يتضمن الدعوة إلى “إنهاء المحاصصة الطائفية”، و”تشكيل العبادي حكومة تكنوقراط”، و”إخضاع رؤساء الهيئات المستقلة وقادة الفرق العسكرية ورئيس أركان الجيش لمصادقة مجلس النواب”، و”فتح ملفات الفساد للمسئولين الكبار”، و”تخصيص نسبة من العوائد النفطية لصالح المواطنين العراقيين”، فضلاً عن تحسين الخدمات العامة.
ورغم الهوة الكبيرة بين الفرقاء إلا أن “الصدر لا يتمسك برحيل حكومة العبادي”، وفق الأسدي، الذي اعتبر أن “تغيير 10 وزراء في حكومة العبادي يحقق جزءاً من المطالب، لكنها لن تكون نهاية التحرك”.
ويؤكد الأسدي أن “الغاية النهائية للتحرك هي التغيير الشامل وليس الجزئي”، وهو ما يعكس تدرجاً في خطوات التيار الصدري، الذي يستوعب تعقيدات المعادلة الداخلية في العراق، وارتباطاتها الإقليمية.
مرحلة المواجهة
ويشير المحلل والخبير في الشأن العراقي د. فاضل البدراني، في حديث لـ “اليوم” من بغداد، إلى أن “الزعيم الشيعي مقتدى الصدر اختار المواجهة في هذه المرحلة، لكنها مواجهة متعددة الأوجه، إذ تتجاوز رئيس الحكومة إلى مواجهة مع حزب الدعوة الإسلامي الذي يتزعمه نوري المالكي”. ويرى البدراني أن “الصدر يمتلك أدوات عديدة وقدرة كبيرة للضغط على المؤسسة الرسمية”، مبيناً أنه “لن يتوقف عند تنازل العبادي، بل سيعقبها بخطوات أخرى”.
المواجهة المحتدمة الآن في الشق المتعلق بالحكومة تصب في صالح مواجهة أكبر وأكثر تجذراً بين “تيار الصدر” من جهة، و”حزب الدعوة الإسلامي”، الذي يقوده المالكي وتدعمه إيران، بما يشمل ذلك “ائتلاف دولة القانون”، الذي يستحوذ على نحو 30% من مجلس النواب العراقي من جهة أخرى.
ورغم أن العبادي ينتمي إلى حزب الدعوة الإسلامي، إلا أنه على خلاف مع نوري المالكي، وهو ما يقول عنه السياسي العراقي والزعيم القبلي المعروف الشيخ عبدالقادر النايل إن “الرجلين يختلفان في المرجعية، فالمالكي يتلقى التوجيهات من إيران، بينما يتلقاها العبادي من بريطانيا وأمريكا”. ويقول الشيخ النائل، في حديث لـ “اليوم”، إن “العبادي يدرك تماماً مكانه في الصراع الدائر، فهو بين مطرقة الصدر وسندان المالكي، لهذا يحاول منذ اليوم الأول إيجاد حلول ترقيعية تجنبه الوقوع بين الطرفين”. ويضيف: “خيارات العبادي من الأزمة المستعرة تبدو محدودة، إذ سيدفعه التصعيد نحو ملاذه الأخير، المتمثل في حزب المالكي”، ويضيف البدراني: “العبادي قد يعود إلى حضن ائتلاف دولة القانون، ما يعني عودته إلى عباءة المالكي”.
والمالكي – من جهته – يدرك حقيقة موقف العبادي، وفي الوقت نفسه يخاصم الصدر، ما يدفعه إلى تبني خطاب متشدد في مواجهة تحرك خصمه، واعتبره – في بيان رسمي صدر عن “ائتلاف دولة القانون” – بمثابة “تحدٍ صارخ يضرب أسس الأمن الوطني وأسس العملية السياسية”.
وهدد بيان المالكي، بطريقة غير مباشرة، تيار الصدر بالقول “لن يستطيع أحد، مهما تصور قوته وحضوره، السيطرة على الأوضاع المتداعية”، ملمحاً إلى فض الاعتصام بقوة السلاح.
وبمرافقة تهديدات المالكي، استدعى العبادي وحدات عسكرية حكومية جديدة من محافظة المثنى وبابل، ودفع بها إلى بغداد استعداداً لأي طارئ، خاصة مع تحركات رصدتها الأجهزة الأمنية الحكومية لمليشيات تابعة للصدر وأخرى تابعة للمالكي.
ويضيف النايل: “القوات العراقية الرسمية، التي تأتمر برئيس الحكومة، تخضع لنفوذ إيراني واسع، الأمر الذي يجعل من إيران لاعباً مهماً في الأزمة الحالية، خاصة أنها عملت – في وقت سابق – على تجريد الصدر من ولاء بعض المليشيات الشيعية عبر استقطاب المالكي لها”.
استدعاء المليشيات
في المقابل، كشف مصدر أمني رفيع في التيار الصدري النقاب، لـ “اليوم”، عن “استدعاء الصدر سرايا السلام واليوم الموعود، التي ترابط في محيط مدينة الموصل بانتظار مواجهة تنظيم داعش، إلى بغداد خشية أن تقدم أية أطراف على عملية أمنية – عسكرية تستهدف اجهاض تحرك المعتصمين”.
واعتبر المصدر، الذي تجنب الكشف عن اسمه، أن استدعاء المليشيات المسلحة يأتي في سياق “التحسب”، وبعيداً عن وجود قرار بالتخلي عن “سلمية الاعتصام”.
وحظي اعتصام “المنطقة الخضراء” بتوافق العديد من القوى السياسية العراقية، سواء السنية أو العلمانية، ما وفّر حواضن سياسية وشعبية عابرة للطائفية، وأتاح لتحرك الصدر شبكة أمان تمنحه زخماً كبيراً، وهو ما انعكس في مواقف رئيس “ائتلاف الوطنية” إياد علاوي، الذي أعلن تأييده لمطالب التيار الصدري، فضلاً عن الدعم الذي حظي به من قوى سنية سياسية وشعبية عراقية.
ويرى الشيخ النايل أن “سيطرة حزب الدعوة وائتلاف دولة القانون، بقيادة المالكي، على العملية السياسية منذ رحيل الاحتلال الأمريكي، جعل العراق ساحة مفتوحة أمام التدخل الإيراني، الذي ضاق به العراقيون ذرعاً، ما يفسر الاستجابة الشعبية التي حظيت بها دعوة تيار الصدر للاعتصام”.
ويشير النايل إلى أن “المعتصمين في محيط المنطقة الخضراء يشكلون طيفاً واسعاً، ويمثلون توجهات ومشارب سياسية واجتماعية مختلفة، وليسوا مقتصرين على اتباع تيار الصدر فقط”.
ويتوقع النايل أن “تتزايد أعداد المعتصمين يوماً تلو الآخر، فيما ستتحول قيادة الاعتصام إلى قيادة وطنية جماعية، تضم قيادات شيعية وسنية وطنية وعروبية”.
وتنتهي مهلة الـ 45 يوماً، التي حددها الصدر لحكومة العبادي، فجر يوم الثلاثاء 29 مارس الجاري، الذي قد يشهد – حال أخفقت المكونات السياسية العراقية في التوصل إلى تفاهم – اقتحام المعتصمين للمنطقة الخضراء، شديدة التحصين.