في فيلم الخيال العلمي «هير» HER (إخراج: سبايك جونزي- بطولة: يواكيم فوينكس- 2013)، كانت مشهديّة التوجّس الإنساني من مستقبل العلاقة مع الآلات الذكيّة جليّة: هل يأتي زمن على البشر يصبحون فيها أسرى (أو، بصراحة أكثر، عبيداً) للروبوت؟ إذ رسم الفيلم الهوليوودي علاقة أسر وتملك عاطفيّاً بين مبرمج الكومبيوتر وروبوت يخاطبه صوتاً (أعطت الممثلة سكارليت جوهانسون صوتها الدافئ لذلك الروبوت). ويشتعل شغف عاطفي مشبوب في قلب ذلك الإنسان الذي يتعامل مع الكومبيوتر والروبوت على مدار الساعة. ويفضي الشغف الفائض إلى تملّك عاطفي، ينتهي إلى حافة الدمار لذلك الكائن الإنساني. ويختتم الفيلم على محاولة الخلاص من العبوديّة العاطفيّة للربوت، بالعودة إلى علاقات مع البشر، لكنها محاولة تبقى مكسورة، فما حصل يشبه سهماً انطلق ولم يعد بإمكان من أطلقه أن يردّه.
غموض مأزوم
هل يكون ذلك هو الأفق المأزوم هو الآتي في العلاقة التي لا تزال مشوبة بالغموض، بين الإنسان والروبوت؟ لنحاول المضي في السؤال عينه خطوات أعمق. ألا يبدو «غريباً» أن تلاعب كلباً ذئبيّاً هجيناً (من نوع «شيان لو») فتقذف العصا ويحضرها إليك كعبد مطيع بفكيه القادرين على تمزيقك إرباً؟ هل فكّرت في الثيران القوية التي تجر المحراث مطيعة السيد- الإنسان الذي تقدر على إفنائه بنطحاتها؟ كيف تقرأ مشهد السيرك، وهو ملخص كثيف عن وضع الإنسان على الأرض، حيث البشر بلا أنياب ولا مخالب ولا عضلات ضخمة، يتلاعبون بحيوانات تفوقهم في كل مناحي القوة البيولوجيّة، لكنها صاغرة مطيعة كعبيد روما في قرون غابرة؟
لا شيء يجعل تلك المشاهد مألوفة إلى حدّ نسيان التفكير فيها، سوى الذكاء المتّقد في عقل البشر. تملك معظم الحيوانات أدمغة، لكنها لا تملك قدرة الإنسان على التفكير الذكي المتطوّر. هل ارتكب الإنسان «غلطة الشاطر»، وهي هذه المرّة ربما تكون بتريليون تريليون (وليس ألف) غلطة؟ صنع الإنسان الروبوت، وأعطاه كل ما يملك من ذكاء… بالأحرى أنّه يحاول أن يفعل ذلك جاهداً وربما… «جاهلاً» أيضاً. ويحدث أيضاً أنّ تلك الآلات أصبحت خلاصة مكثّفة لأذكى العقول وللتجارب الأكثر ذكاءً على الأرض. في المقابل، ما زال دماغ الإنسان على حاله منذ آلاف السنوات. ووفق ما لاحظه ذلك الكسيح الجسد والمتّقد الذهن، عالِم الفيزياء الكونيّة ستيفن هوكينغ، فإن عقل الإنسان محكوم بتطوّر بيولوجي بطيء تماماً، فيما تتضاعف قدرات الذكاء الاصطناعي لدى الروبوت باطّراد مذهل.
وهناك فجوة تفتح فكيها باتساع متزايد، بين ذكاءين يتمدّدان على الكرة الأرضيّة: الذكاء البيولوجي للإنسان والذكاء الاصطناعي للروبوت. يزيد في اتساع تلك الفجوة أن الإنسان يبذل جهوداً لا تتوقف لينقل سمات ذكائه كافة بالذات (بالأحرى ما يستطيع معرفته عن ذلك الذكاء)، إلى الذكاء الاصطناعي. ويزيد في قسوة الفجوة أن الذكاء الاصطناعي لديه إمكانات مضافة لا يملكها الذكاء البشري، بل أنه يجمع ذكاء عقول كثيرة (من أزمنة متعدّدة وبأعداد كثيرة)، فيما لا يملك كل إنسان سوى ذكاء عقل واحد. ويتنقل الذكاء المتراكم في تلك الآلات، بطريقة تجعل كل آلة تملك كل الذكاء الموجود في الآلات كلها. إلى أين توصل تلك الفجوة المتزايدة الاتساع بين ذكائي البشر والروبوت؟
التمرّد مجرد بداية
هل مبالغة القول إن الزمن لم يعد بعيداً على ظهور روبوت يمتلك كل قوّى الذكاء الاصطناعي المتطوّر، مضافاً إليها ميزات الذكاء البشري كافة؟ (مرّة اخرى، يجدر الانتباه إلى أن البشر ينقلون إلى الروبوت كل ما يستطيع الكائن الإنساني معرفته عن ذكائه وعقله عبر تاريخه كله، ما يوجب التشديد أيضاً على وجود مناحٍ كثيرة يجهلها الإنسان عن ذكائه وعقله).
إذاً، هل لم يعد الزمن بعيداً من ظهور روبوت تكون نسبة ذكائه بالمقارنة مع البشر، هي مثل نسبة ذكاء البشر بالمقارنة مع الحصان والحمار والثور و… كل ما استطاع البشر تدجينه من حيوانات؟ هل يصبح الإنسان هو «المُدَجّن» لدى الروبوت؟ ربما يصلح مشهداً للسينما تخيّل روبوت يقذف بعصا لـ «المُدجّن» لديه (الإنسان، بصريح العبارة)، فيحضرها الأخير له بيديه ضاحكاً كعبد لم يتطوّر وعيه ليفهم عبوديته! مشهد سينمائي آخر؟ يدخل جمهور الروبوتات السيرك، حيث الروبوت بذكائه الاصطناعي المتطوّر يدير ويتلاعب بمجموعة من الكائنات البيولوجيّة المدجّنة التي لا تملك سوى ذكائها البيولوجي البطيء، بما فيها الإنسان؟
وفي المؤتمر السنوي لـ «الجمعية الأميركيّة لتقدّم العلوم»، طرح البروفسور موشيه فاردي، وهو مدير «معهد تقنيّات المعلوماتيّة» في «جامعة رايس» بولاية تكساس، سؤالاً مقلقاً: «قريباً ستتمكن الروبوتات من القيام بكل الأعمال البشرية. وحينها، ماذا يكون متروكاً للبشر كي يعملوا به»؟ وتداول المؤتمر أرقاماً تفيد بأن شخصاً من أثنين على وجه الأرض، سيكون عاطلاً من العمل بسبب حلول روبوت مكانه، وتختفي خلال سنوات قليلة عُشر الوظائف التي تتطلب قيادة آلية للمركبات بأنواعها كافة، بسبب تطوّر الروبوت- السائق. «هل يحتمل الاقتصاد العالمي ذلك الوضع»؟ سأل فاردي بمرارة، مشيراً إلى الزيادة المتسارعة في الروبوتات العاملة في الصناعة في أميركا كنموذج عن ذلك الخطر. ففي «بلاد العم سام»، هناك 200 ألف روبوت صناعي، وتتزايد باستمرار، لكنها تترافق مع تراجع مستمر منذ ثمانينات القرن الماضي، في فرص العمل في الصناعة، إضافة إلى ركود اقتصادي ضخم يجتاح الطبقات الوسطى في أميركا.