الدخول الى عالم أسادور يشبه المتاهة، ليس لأنه معقّد ومغلق بل لأنه ساحر بخلائه وبقع أنواره وأشباح ظلاله وبلاط غرفه المتقاطعة حتى آخر الأفق، حيث يخيّم الصمت الذي لا يقطعه سوى تدحرج عجلات على سكك مرقّمة في فضاء مأهول بالكواكب والأقمار والمثلثات والأدوات والأرقام والجداول الحسابية، ما يوحي بأن البحث عن جماليات المكان لا يتم إلا من سبيل الهندسة. وهو بحث مضن وحثيث وأحياناً غير مجدٍ، لأن المكان ليس على الأرض وليس له وجود في الحقيقة ولا في الواقع، بل يشبه المنام حين يغدو ويروح ويترك بصمات عبوره على لحاف السماء.
والحديث عن فن أسادور (مواليد بيروت – العام 1943) يأتي لمناسبة إقامة أول معرض استرجاعي كبير له في أروقة متحف نقولا ابراهيم سرسق (حتى 30 أيار – مايو 2016) بعنوان «منظر متحرك»، يشتمل على مجموعة ضخمة من الأعمال بينها مائة لوحة ومحفورة (غالبيتها من مجموعة بيار قرداحي التي وهبها في العام 1996 لمتحف سرسق) تعكس مراحل متنوعة من نتاجه الفني خلال خمسين عاماً، فضلاً عن العديد من الدواوين الشعرية التي زيّنها أسادور برسومه لكبار شعراء عصره. يأتي المعرض في مثابة احتفال بفنان أرمني لبناني مقيم منذ أواخر ستينات القرن العشرين في باريس. تخطّت شهرته العواصم العالمية، لأنه من الحفّارين القلائل الذين أوجدوا طرائق لاستمرار التقنيات الطباعية في مخاطبة عصرها والتعبير عن مشاعر العزلة والحلم وضياع الأمكنة وعوالم الخيال. تتمحور الأعمال المعروضة حول ثلاث مراحل يعود أقدمها الى الستينات، التي شهدت على حضور الدمية المفككة، تلتها مرحلة أشياء وركام، في حين بدأت تدخل الألوان على محفوراته بدءاً من الثمانينات، حين تحول نحو المشهد التجريدي وفضاءات العمارة في المدن السرية، أما في التسعينات وما تلاها فقد ركّز على الحضور الإنساني الذي يتماهى مع الأيقونية البوذية والأقنعة الأفريقية. وفي مرحلته الأخيرة، فهي تجسد الحوار بين المشهد والقامة البشرية وبين النظام والفوضى، لعل سر لوحة أسادور هو أنها تبتغي بعث الحياة في الأشياء الساكنة والجامدة. الاستحالة تغدو شيئاً ممكناً إذا ما قورنت ببحثه أيضاً عن مدن مفقودة، وفي بحثه الجاري عن هذه المدن يقوم أسادور مثل منقّب عن الآثار بالحفر بواسطة الإبرة على سطح المعدن، في عملية شبيهة بالتنقيب في باطن الأرض، حيث يتم رفع الركام والأنقاض وصولاً الى بواطن عميقة ولجج وطبقات منسية، شبيهة بطبقات الذاكرة. من السطح الأعزل الى العمق هي الحركة نفسها التي يتم فيها البحث عن الذات، التي تتوارى خلف أقنعتها العديدة المتحايلة درءاً من الكشف عن العواطف المخبأة وصور الطفولة الهاربة، وفي شكل خاص الوجود العابث.
ما كنت أعرفُ أن ثمة ارتباطاً بين فكر أسادور وقراءاته الفلسفية، لولا أن أهداني ذات مرة كتاباً لمارتن هايدغر يتحدث فيه عن فلسفة الوجود بين الحقيقة والنكران. وأسادور المهاجر النقي الحالم المترفّع المكتفي بحياة قليلة بين الكانال سان مارتان حيث يقطن والمقهى المجاور، لا يبتغي أكثر من العزلة، لكي ينذر نفسه للفن، فن الرسم تحديداً، الذي لطالما زاوله منذ يفاعته في بيروت، وفضّله على سواه من التقنيات والوسائل. ثم يكتشف أسادور أن وسائل الحفر هي عالمٌ كائن بذاته، وأن البحث عن الزمانية الكامنة في البعد الرابع، هو عالم آخر مضلل، وأن المكان الذي يحلم به ويفتش عنه، يحتاج رصده وإيجاده الى وسائل رياضية وأدوات حسابية لإظهار إحداثياته على خريطة المساحة، ليجد أن كل السعي الذي بذله ليس سوى رؤى أو تهيؤات متأتية من عالم افتراضي أو من اللامعقول.
هل تلتقي دروب أسادور مع الدروب التي حفرها منذ عصر النهضة الألماني الشهير ألبرشت دورر Albrecht Dürer، في بحثه عن أسرار الأعداد والأرقام السحرية والشيفرات الملغزة، حين ربط الفن بالعلم حتى وصل الى الكآبة التي أضحت عنوان محفورته المعروفة باسم Mélancolie. على الأرجح أن العقلانية الحسابية لدى أسادور، تشير الى العمق الحضاري لمدن قديمة مندثرة في رمال الأزمنة، حيث كانت العلوم الرياضية والحسابية سبباً في تطوّر منشآتها ومعابدها، ولم يبقّ منها سوى طقوسها السحرية، وقد تحتمل أيضاً تلك العقلانية الهندسية قراءات متأتية من فانتازيا البحث عن اللامألوف وعناصر الدهشة والصدمة التي تحدثها عناصر غريبة مجاورة بعضها لبعض في فكر شعراء السوريالية وفنانيها. لكنْ، ثمة هاجس آخر يسيطر على لوحة أسادور هو كابوس المدن الصناعية والعالم التكنولوجي والازدحام الخانق، ما يدفع الفنان الى عزل نفسه خارجه، لذا يرسم فراغ المدينة على أنه الفراغ الجوّاني المحسوس، كما رسم جيورجو دي شيريكو من قبل المدن الخاوية في حلمه الميتافيزيقي، حين صوّر الإنسان شبيهاً بمانيكان الخياطة في ساحات شاسعة وفارغة إلا من الأبراج والأبنية المغلقة على ذاتها.
هكذا ترتدي الطبيعة المعمارية الهندسية في محفورات أسادور وجوهاً استعارية – شعرية عديدة، متّصلة بالإنسان – المتنزه العابر – الذي يكتشف حطاماً ومخلّفات من أشياء مفقودة، متناثرة على أرض محروقة، مليئة بالفجوات المظلمة، والمربعات والدوائر والمثلثات، وسط عالم من الرموز والتبصيمات والإشارات التي تؤكد قوة الفراغ والغياب والهجرات في أعقاب المجازر والحروب، بل قوة حضور الأثر Trace. إنها مناظر لفضاء مريب أو لأرض مجهولة، من منظور جوي استكشافيّ وأحياناً من منظور أفقي – داخليّ، تتبدى كجسد مفتوح للعراء، كصحراء الذاكرة القتيلة التي يمشي عليها رجل أو امرأة من أشباه الدمى الخشبية، والدمية تحمل بيدها دولاب الزمن، كرمز للقفزة الحضارية في التنقل والحركة والتقدم العلمي، لتبيان تلك العلاقة التعارضية المأسوية بين تطوّر أدوات العلم وانقراض البشرية.
أسادور رسام الذاكرة المكانية القتيلة
رابط مختصر
المصدر : http://zajelnews.net/?p=8732