“أعرف على وجه اليقين أنه ذات مرة وُجد على الأرض، رجل مضطهد. يسعى مرارا للوصول إلى الجبل حيت النقاء متلفعا بالأمل”
– موسوليني، قصيدة الغابة المظلمة من الليل
يقول نابليون بونابارت في تعريفه للديكتاتور بأنه الحاكم الذي يبدو أنه حائز لثقة الأمة وتأييد الرأي العام حتى قبل سقوطه بدقائق، فالديكتاتور إذن مشغول بتلميع صورته وتقبير معارضيه حتى لآخر لحظات حكمه ويشتغل بدوام كامل في استبداده. التاريخ يخبرنا بأن هَمّ المستبد الوحيد هو السلطة لكن في العصر الحديث تغيرت الأمور وظهرت قوة القلم لدى عدة مستبدين وجدوا الوقت لإسالة الدم والحبر أيضا: لينين، ماو، موسوليني، هتلر، صدام حسين، القذافي وحتى بن لادن، كل هؤلاء عشقوا الأدب كعشقهم للسلطة، فمنهم من نشر كتبا أحدتث وقعا كبيرا فور صدورها ومنهم من جرب الرواية والشعر.
“أنا مدعو لكأس من النبيذ من يد حبيبتي، إلى من أستطيع أن أفضي إليه بهذا السر؟ إلى أين يمكنني أخد هذا الحزن؟” هذه الأبيات الشعرية تجعل التوفيق بينها وبين صاحبها أمرا عسيرا أو شبه مستحيل، فهذه الأشعار كتبها المرشد أية الله الخميني قائد الثورة الإسلامية في إيران، وتبين الفوارق الكبرى بين ما يخالج الفؤاد وما يطبقه الحاكم. أول نقطة مشتركة تثير الانتباه، أن العديد من الطغاة بدأوا حياتهم كمثقفين، بل ككتاب كموسيليني الذي نشر عدة قصص ونابليون الذي كتب رواية وسيرته بينما عرف العالم هتلر عن طريق “كفاحي” الذي قدم فيه نفسه ككاتب.
كل الطغاة يرون في الأدب والكلمة وسيلة للبقاء في سدة الحكم، ومن خانته الموهبة والتعبير التجأ للتزوير كالزعيم السوفييتي ليونيد بريجيتيف الذي حاز سنة 1979 على جائزة لينين في الأدب عن ثلاثة أعمال: “الأرض الصغرى”، “الأرض البكر” و”الانبعاث”، والمعروف أن الزعيم الذي طارد الكُتاب والأدباء وألقى بهم في السجن لم يكتب أيا من تلك الكتب. هوس الأدب ظهر عدة مرات على مدار التاريخ لدى طغاة أرادوا البحث عن ألقاب جديدة كأديب مثلا، مما جعلهم يتفرغون بشكل كلي للتأليف كالرئيس السابق لليبيا معمر القذافي الذي نسي أنه رئيس دولة واعتكف لكتابة “الكتاب الأخضر”. إن البعد السيكولوجي في أي شخصية له حصة كبيرة في تشكيل هذه الشخصية، فالطغيان ليس مجرد سلوك بل انعكاس لحالة ذاتية داخلية يعيشها الطاغية تمثل الدافع الدينامي الداخلي للسلوك الاستبدادي والتسلطي، ومن صفاة الطاغية ادعاء المعرفة واقتحام جميع مجالات التألق.
طغاة ولكن..
“أيها الشاعر كم من زهرة عوقبت لم تدر يوما ذنبها”
– إبراهيم ناجي
يقول محمود درويش بأن كل ما يتحقق لا يعود حلما، الشاعر أو الفنان يختنق خارج الحلم، وبالتأكيد جميع الأدباء والمبدعين يجمعون على كون الآلم محركا أساسيا للإبداع، فالكتابة هي الطريقة الأكثر جمالا للبحث عن عزاءٍ خاص، شكسبير شاعر الإنجليز ابن جزار قاسي وأمه في عداد الأموات لا تكتب ولا تقرأ، جبران خليل جبران ماتت أمه وتركته وحيدا لأبيه القاسي. الشعر مرادف للإحساس المرهف وتهذيب الروح، لذا يبدو صادما أن يكون أيضا احتفاء بالتوغل والديكتاتورية، ومن العصور القديمة إلى زمننا القريب وجد الديكتاتوريون في الشعر عزاء لا رواحهم المفقودة والتعطش للسلطة والمجد..
الامبراطور الروماني نيرون (37م) نموذج مثالي لدراسة ازدواجية الطغيان والإبداع، فقد نجح نيرون في عكس طغيانه واستبداده على شعره الذي طالما وُصف بالشعر الوضيع. وقد أشار مؤرخه تاسيتوس إلى أن الامبراطور كان معذبا من أشعاره وسياسته أيضا لذلك كانت أعماله الانتقامية رفيعة المستوى.
في روما انشئ نيرون عدة مهرجانات وشارك في مسابقات للشعر والأغاني والغيتار، جل هذه التناقدات في الامبراطور الدموي تجعلنا نتسائل هل يمكن الحكم عن إبداع الطاغية بعيدا عن شخصيته؟ القدرة على الانفصام والتناقض سمة أساسية في الديكتاتور، فوريث ستالين الروحي يوري أندربوف كان يضطهد المعارضين ويسحق الانتفاضة صباحا ويكتب قصائد الحب لزوجته ليلا.
بالعودة لأية الله خميني الذي يقول في إحدى قصائده: “افتح أبواب الحانة على مصرعيها ودعنا نذهب إلى هناك ليلا ونهارا.. لأنني مريض وتعب من المسجد والمعهد” فكلماته تضعنا أمام التناقد الذي يعيشه الطغاة وكذلك القراء الذين يجب أن يقرأوا النص بعيدا عن خلفية صاحبه، تكشف هذه الأبيات على أية الله كصوفي متأتر بجلال الدين الرومي وليس كطاغية عرف معه الفن في إيران اختناقا شديدا. في عام 2010 كتب القيادي الجهادي أسامة بن لادن رسالة إلى ملازم عسكري يتناول فيها خطة عسكرية يطمح لتحقيقها، وفي نهاية الرسالة أضاف بن لادن طلبا للملازم: “إذا كان هناك معك أي كتب عن علم النظم الشعرية الكلاسيكية يرجى إرسالها إلي”.
لقد كان بن لادن بالإضافة لأكثر الرجال المبحوث عنهم، شاعرا مشهورا بين المجاهدين، كما أن التنظيمات الجهادية تزخر بشعراء ومبدعين كمصعب الزرقاوي الملقب بالجزار و”الذي يبكي كثيرا”، في نفس الوقت مما يظهر التخبط الذي يعيشه هؤلاء في منطقة بين القسوة والرقة، كما أن زعيم القاعدة أيمن الظواهر شاعر فيما قائد داعش أبو بكر البغدادي حاصل على أطروحة الدكتوراه عن القصائد الدينية. ثمة تناقض آخر يعيشه الدكتاتور الأديب، فكلما وصل إلى السلطة اختار الكتابة لعرض معتقداته دون الانتباه إلى أنها قد تصير لاحقا غير مناسبة لرؤيته، وهذا ما وقع لموسيليني الذي صار رهينة دعايته الخاصة، وكما كتب دانييل كالدر في كتابه “أدب الديكتاتور”: لقد عانى موسوليني كثيرا من أجل دفع العجلة إلى الأمام وهو الذي كان في كتاباته الأولى متمردا معاديا للكنيسة واضطر إلى أن يتحول إلى مدافع مستبد عن الوطن والمذبح”.
هذا الإشكال جعل العديد من الطغاة يكتبون بأسلوب أجوف وفارغ يحتمل معاني كثيرة للالتفاف عليه مستقبلا كي يقدموا دليلا على العبقرية دون أن يعلنوا عن أي شيء ذا معنى، وذلك ما يمكن ملاحظته في الكتاب الأخضر للقذافي. وفي مقابل تلميع الصورة عبر الأدب، هناك من اختار الكتابة بأسماء مزيفة لكي لا تظهر رقة مشاعر الديكتاتور المتخيل في عقول الشعب، كصدام حسين الذي يوقع رواياته بـ”رواية لكاتبها” أو الجنرال فرانكو الذي يوقع باسم خايمي دي اندرادي. لقد حاول إذن العديد من الطغاة تنقية أرواحهم وخلع اللباس العسكري عن طريق الأدب كما هو الحال لدى صدام حسين في نهاية عمره بكتابته روايات الحب: “زبيبة والملك” و”القلعة الحصينة” و”رجال ومدينة”. صدام الذي كان يعشق الظهور بالكلاشينكوف صار مدفوعا في آخر أيامه بحبه للراوية لإهمال واجباته السياسية، وعلى فكرة فميخائيل كلاشينكوف كان يريد أن يكون شاعرا.
“أنت نسيم هادئ..
ينعش روحي فتتجدد من قبلك
فتُزهر وتُبعث من جديد
مثل غصن باهت يتحول إلى اللون الأخضر”
صدام حسين 2013
أدب الطغاة من هتلر إلى صدام.. حينما يبدع الديكتاتور
رابط مختصر
المصدر : http://zajelnews.net/?p=87045